.. ليلة في بطن الحوت!

TT

انحسرت الدنيا من حولي وفي داخلي.. عندما منذ ايام وجدتني في غرفة صغيرة بيضاء، وعلى سرير صغير. وجاءت الممرضة بابتسامة رسمية وسألت ان كنت اريد شيئا. فقلت لها: اريد الذي لا يستطيعه احد. ضحكت وتساءلت كأنها قادرة على ان تحقق ذلك: ماذا؟ قلت: ان تخففي الالم. تساءلت: ألم يحدث..

ـ لم يحدث

ـ ولماذا لم تقل للطبيب..

ـ حتى لو قلت، فما الذي يستطيعه أي طبيب.. انني تذكرت النبي يونس في بطن الحوت. وحدة موجعة.. كان يونس في ظلمات بطن الحوت.. وانا الآن ارفع سماعة التليفون واحاول ان اقوم باعدام الوجود حتى لا يبقى سواي.. حتى ابقى وحدي مع نفسي لكي افعل ماذا؟ ولا شيء. وانما لكي يتعمق عندي الشعور بالالم.. فما الذي يستطيعه احد.. واستدرت لكي ارى اين وقع كلامي منها..

فلم اجدها، لا بد انها احست انه هذيان المرضى. وقد اعتادت على ذلك.. واصبح المرض كأنه راديو مفتوح على الآخر.. يقول ويعيد كلاما مكررا فلم نعد مرضى وانما اسطوانات مسجلة بلغات مختلفة!

تضايقت.. انني كنت اكلم نفسي عن نفسي. وضغطت على الجرس لكي استأنف الكلام مع الممرضة. وبعد لحظات طالعني وجه آخر لممرضة اخرى. ووقفت بابتسامتها التقليدية تسأل ماذا اريد قلت لها: اريد لك ما اريده لنفسي.

ـ شكرا، ماذا؟ ـ سلامتك؟ قالت شكرا واختفت. فلست مريضها الوحيد الذي يحاول ان يخلق علاقة واهية عند منتصف الليل مع واحدة تلف وتدور وتطلع وتنزل وتبتسم وتنتظر رغبات المرضى.. وضغطت على الجرس. وجاءت ممرضة ثالثة: تحت امرك.. هي التي تقول طبعا. فقلت: العفو.. عادت تقول: تحت امرك.. ووجدت ان الكلام معها وبالطريقة السابقة مع الممرضات الاخريات: سخف.. واستمرار في السخافة. فلا عندي كلام اقوله. ولا عندها. ولا اريد منها شيئا. وهي لا تستطيع إلا الابتسام. فقلت لها: كوب ماء.. فأشارت الى وعاء بجواري.. فقلت: قرص منوم.. فأشارت الى زجاجة بجواري. قلت: انام.. فانسحبت وفي يدها الباب والصوت والضوء.. فما الذي اردته؟ ولا حاجة. لقد وجدت نفسي مقطوع الاوصال الصوتية والضوئية والعطرية.. وان الدنيا كلها ابواب ونوافذ قد اغلقت وتليفونات قد خرست ونفس قد ضاقت.. وان للناس جميعا طعم الدواء وان لم تكن فائدته.. وان الاطباء يرون المرضى لا صبر عندهم.. والمرضى يرون الاطباء مجانين لا اعصاب عندهم. فأبشع الامراض لا تهزهم ولا صرخات المرضى ولا ويلاتهم.. عندما انفتح الباب وكان الطبيب وسألني: ماذا تريد؟ فقلت بسرعة: اريد الذي لا تستطيعه: الا اراك ولا تراني!

عبارة فظيعة لا تقال. وحمدت الله انني لم اقل. فلا انفتح باب ولا دخل طبيب.. وانما تخيلت ذلك. فليعذرني حتى لو قلت!