الحبة قبة حتى إشعار آخر!

TT

كل شيء صعب ومتعثر في عالمنا العربي، إلا صناعة الأزمة، فهي لا تحتاج إلا إلى قدح شرارة صغيرة، بالغة الصغر، ليتحول الأمر، وبسرعة، إلى حريق يأكل الراحة ويلتهم الهدوء.

السبت الماضي نشب عراك بالأيادي، تطور إلى سباب وشتائم بين عدد من النواب البحرينيين، مسببا فوضى كبرى لم يشهد البرلمان مثيلا لها مسبقا. وجاءت «المعركة»، خلال جلسة استثنائية عقدها المجلس النيابي لمناقشة ميزانية الدولة التي كانت الحكومة قد أحالتها للبرلمان بصفة مستعجلة.

نائب شيعي انتقد ما اعتبره ضخامة صرف على قوات الدفاع، واصفا منتسبيها بالمرتزقة، لتثور حفيظة نواب آخرين ومعهم رئيس المجلس، ويكثر اللغط، فيداخل نائب سني طالبا من النائب الشيعي عدم الصراخ لأنهم ليسوا في «مأتم»، الأمر الذي فسره نائب شيعي ثان بأنها إشارة ساخرة لتقاليد المأتم الحسيني لدى الشيعة، ويرد بشتيمة من العيار الثقيل واصفا النائب السني بالحمار، وينتهي المشهد الصاخب بلكمة خطافية من النائب الغاضب على وجه زميله.

هكذا خلقت معركة من أمر كان بالإمكان مروره بشكل هادئ.

نصيب جزيرة البحرين الصغيرة الجميلة من بضاعة التأزيم ليس جديدا، ولم يقف عند هذا الحد. ففي يوليو 2005، سالت المظاهرات الغاضبة في شوارع جزيرة اللؤلؤ سخطا على «كاركتير» نشر في جريدة «الايام»، قيل إنه يسيء لمقام مرشد الثورة الإيرانية خامنئي، ووصف رئيس تحرير الجريدة بالخائن.

وفي الكويت، تحول قرار اتخذته وزارة الأوقاف الكويتية بمنع بعض الكتب بحجة أنها لا تشجع على فقه التسامح، إلى أزمة كبيرة، وتنادى السلفيون لعقد مؤتمر «مناصرة» لمؤلفي هذه الكتب، وتم دعوة شيوخ من خارج الكويت لتعزيز الاحتجاج والمناصرة.

وفي العراق، وتحديدا في ديسمبر الماضي، أثار برنامج «الاتجاه المعاكس» غضبة شعبية شيعية هائلة، وخرجت المظاهرات في شوارع بعض المدن العراقية، وهتف أنصار المرجع الشيعي السيستاني مناصرة له وحنقا على قناة «الجزيرة» القطرية، وطالب بعضهم برأس مقدم البرنامج، بسبب ما اعتبروه إهانة تعرض لها المرجع من قبل احد ضيوف البرنامج. الاحتجاجات امتدت من الجعفري الى الحكيم، و«هوس» الغاضبون بهوسات ثائرة، لعل من ألطفها:

«هذي الجزيرة الباطلة النا حساب وياها».

أو: «تاج تاج على الراس.. سيد علي السيستاني».

وفي مصر، شنت حملة مركزة على الحكومة المصرية بسبب عدم إجازة مادة تعبير لطالبة صغيرة اسمها «آلاء»، وعمرها 15 عاما، لأنها كتبت في درس التعبير كلاما نقديا عن بوش والسياسة الأمريكية. المدرس اعتبر هذا خارج نطاق الدرس، وقرر ترسيبها، وكذلك مدير المدرسة. وتحول الأمر إلى «أزمة» أشعلت القش السياسي المصري اليابس، حتى تدخل رئيس الجمهورية المصرية شخصيا، ونفّس بخار الأزمة التي أحدثتها ورقة تعبير لطالبة صغيرة.

في لبنان، وقبل أسابيع قريبة، أحداث عنف، وصخب في شوارع بيروت من قبل أنصار «حزب الله»، وهجوم على أحياء المسيحيين، وسقوط ضحايا، بسبب فقرة كوميدية تناولت قائد الحزب. حسن نصر الله، في قناة LBC، واعتبر الأمر «كفرا»، أو ما يشبه الكفر من قبل الانصار.

وأما في السعودية، فالقابلية للتأزيم عالية، خصوصا مع انفتاح التحديات الداخلية بوتيرة أسرع من الماضي، ومع تزايد الحراك الاجتماعي، ومساجلات التيارات الفكرية والسياسية في البلد الذي لم يعتد على أن يتكاشف، أو قل يتواجه، مواطنوه فكريا بشكل صريح ومباشر، كما يحصل هذه الأيام. لدرجة أن يدخل إلى معمعة السجال الإعلامي رجل دين ينتمي للمؤسسة الدينية الرسمية، ذات الحصانة «العرفية» سعوديا، أعني الشيخ صالح الفوزان، ونراه يكتب بسخاء وتواتر، منتقدا هذا الكاتب «المنحرف»، أو تلك الفكرة الضالة، مدافعا عن الخطاب الديني ضد من يطالب بتجديده أو نقده او اطراح ما لم يعد منه مناسبا مع ظروف المرحلة، خصوصا أن قوام هذا الخطاب هو اجتهادات تفسيرية بشرية في المقام الأول. لكن الشيخ الفوزان يأبى ذلك، ومناقشوه من الكتاب يطالبونه بعدم فرض رأيه على المجتمع بحجة انه هو الحق، ولا حق سواه، والجدل يتركز حول مسألتي إصلاح مناهج التعليم الدينية، وطرح فقه أنسب لمسألة الجهاد، وأنه، أي الجهاد، يجب أن يكون محصورا في الحالة الدفاعية، وليس مطلوبا لذاته، كما قال الكاتب محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، الذي ذكّر الشيخ بأننا أعضاء في المجتمع الدولي الذي تقوم شرعته على أن الأصل في العلاقات بين الدول هو السلم، وليس الحرب أو «الجهاد»، كما يقول الشيخ. وقريبا من ذلك، قال الكاتب السعودي الآخر حمزة المزيني، غير أن الشيخ الفوزان يهاجم هذا الطرح ويعتبر، كما في رده على المزيني الذي قال ان هناك علماء آخرين لا يرون جهاد «الطلب»، أي القتال الابتدائي، بل جهاد الدفع، أي القتال الدفاعي، يعتبر الفوزان كل ذلك باطلا، ويقول: «إن كان هؤلاء العلماء الذين نسبت هذا القول إليهم لا يرون جهاد الطلب أصلا وأنه لم يشرع فهذا جحود لما دل عليه الكتاب والسنة من مشروعية جهاد الطلب عند القدرة عليه. وإن كانوا يقولون إن المسلمين الآن لا يطالبون بالقيام به مؤقتا لضعفهم عنه فهذا صحيح وأنا أقول به، ولكن ليس معنى هذا أن يلغى ذكر جهاد الطلب ولا تدرس أحكامه في المقررات الدراسية، لأن هذا إلغاء لحكم من أحكام العقيدة». (جريدة الوطن السعودية، 2 يوليو 2006).

لا ننتظر من الشيخ صالح الفوزان أن يغير رأيه الذي تعود عليه، وهذا أمر طبيعي، وكل هذا الجدال صحي، لكن بعض الأنصار في السعودية لا يرى الأمر كذلك، بل يرى أن هناك هجمة شرسة على الإسلام في السعودية من قبل الكتاب والإعلاميين، بسبب اشتمال صفحات الصحف، أو شاشات الفضائيات على مثل هذه السجالات، لدرجة أن احد هؤلاء الأنصار كتب محذرا من الهجمة الإعلامية على الإسلام في السعودية! معتبرا أن: «التصدي لهؤلاء من أوجب الواجبات، وهو من أعظم الجهاد الذي أمر الله به».

وهكذا تحول النقاش بين شيخ يدلي بدلوه في الشأن العام، ويخالفه آخرون، إلى «أزمة»، يعتبر التصدي لها من «أعظم الجهاد».

وقبل ذلك، وفي السعودية، تحول قرار تنظيمي يسمح للمرأة بالعمل في محلات بيع الملابس الداخلية النسائية إلى «أزمة» حول الفضيلة والعفاف، تستنفر لها خطب الجمعة والندوات.

وتحول كلام معلم في إحدى القرى النائية، شمال وسط السعودية، عن أهمية مكافحة ثقافة ابن لادن، والكلام عن جمال الموسيقى، تحول إلى أزمة أشغلت الرأي العام، وتدخلت فيها أعلى المستويات في البلد.

وغير ذلك... وغير ذلك...، فلماذا هذه القابلية للتأزم لهذه الدرجة؟!

ألا يمكن أن نتناقش حول هذه المسائل بطريقة أخرى؟ ثم، لماذا تصل أصلا بعض هذه القضايا الصغيرة إلى حيز تداول الرأي العام؟

لا أدري الجواب على وجه دقيق، غير أني أتفق مع المفكر اللبناني رضوان السيد الذي قلت له طرفا من الكلام الذي ذكرته لكم، فقال: «صحيح لدينا كلنا قابلية عالية للتوتر، وأعتقد أنها نابعة من الشعور باليأس من التغيير، وعليه فهي ممارسة للصراخ اليائس، كما يحصل عندنا في لبنان».

شخصيا، أضيف عن أسباب القابلية العالية للتوتر، وجود أجواء خوف وحذر، وخشية من فقدان وضعية معينة، كما هو الحال في السعودية من قبل الصحويين، أو من يقاربهم من التقليديين، فهؤلاء تسيرهم غريزة الخوف والحرص على البقاء، ولكن البقاء بنفس الشروط والمواصفات الأولى.

من أجل ذلك، وغيره، أعتقد أن هذه القابلية للتوتر ستستمر، وسنبقى أسرى لها، بل انها ستزيد أكثر من تزايد الشعور باليأس من حدوث التغيير، أو بالخوف من حدوث التغيير نفسه! كلا الفريقين متوتر، ولديهما الاستعداد لخلق قبة من حبة.. هذا هو الحال، وسيبقى كذلك في انتظار أن تهب علينا نسائم الراحة، التي تجعلنا نرى الحبة حبة والقبة قبة...

[email protected]