الانفجار الكبير.. من المسؤول عنه

TT

«ان طبيبا فلسطينيا وشقيقه اختطفا من بيتهما في منطقة الشقة في رفح قبل يوم من أسر الجندي جلعاد شاليت، فيجب اطلاق سراح الطبيب وشقيقه، كما يجب فك أسر كل النواب الفلسطينيين الذين اختطفوا.. اننا نرقب برعب العقاب الجماعي لسكان غزة او يجب البحث عن كل مخرج عقلاني يؤمن اطلاق سراح الجندي جلعاد شاليت بدلا من ان تقوم اسرائيل باستخدام قوتها العسكرية المتفوقة لإرهاب الشعب الفلسطيني كله. فتدمير البنية التحتية لغزة لن يسهم في فك أسر شاليت. فقصف محطات توليد الطاقة الكهربائية وقطع الوقود، وحرمان السكان من الكهرباء ومياه الشرب، وتدمير المجاري، وحرمان المرضى في المستشفيات من العناية، خاصة الذين يعتمدون على الآلات أو الذين يحتاجون الى غسيل دم. فهذا كله يهدد بوباء ومجاعة، ولكنه لن يحل المشكلة. ان اسرائيل تستخدم أسر الجندي شاليت كذريعة للاطاحة بالحكومة الفلسطينية المنتخبة ديمقراطيا، ومن خلال تصوير أسر الجندي كحادث معزول يجري تجاهل عمليات الخطف الدورية «!!» التي تمارسها اسرائيل ضد الفلسطينيين من بيوتهم. وقد تم اعتقال آلاف الفلسطينيين في معتقلات السجون الادارية بدون محاكمة، ومن بينهم أطفال ونساء. وهناك حاجة الى تحرك المجتمع الدولي لانهاء هذه المآسي».

أهذه صيغة لمشروع بيان سيصدر عن اجتماع وزراء الخارجية العرب المجتمعين اليوم في القاهرة؟.. لا.. أم هي صيغة لمشروع قرار يزمع اصداره وزراء خارجية الدول الاسلامية؟.. لا ايضا.. أم هي صيغة لبيان أعده مثقفو العالم العربي الاسلامي ومفكروه.. لا: كذلك.

ان الفقرات الآنفة: تفكير يهودي، وتعبير يهودي، وسلوك وموقف يهوديان. فهي فقرات من بيان واضح ونزيه وعادل وعاقل وأمين أصدره ثلاثمائة يهودي من أكابر الشخصيات اليهودية البريطانية.. ومن دلالات البيان ومفاهيمه:

أ ـ ان هناك قيادات يهودية ذات وزن عال: لم يحتمل ضميرها، ولم يستسغ عقلها ما تقوم به اسرائيل من طغيان وعدوان.

ب ـ من دوافع البيان: الخوف الشديد من المصير المرعب الذي يقود ساسة اسرائيل وقادتها: يهود العالم اليه، وهو خوف يستهلم تجربة اليهود التاريخية المريرة في هذا المجال.

ج ـ ان هذه شهادة غير مجروحة، أي انها شهادة غير متهمة بمعاداة السامية، وكراهية اليهود.

د ـ ليس هناك (اجماع يهودي) على المظالم التي تمارسها اسرائيل في المنطقة، ومن هنا تتبدى فداحة (خطيئة التعميم): تعميم حكم واحد على اليهود أجمعين بأنهم طغاة وظلمة، وتعميم الدعاء عليهم كافة.

هـ ـ ان هناك يهودا: أشرف وأعقل من كثير من العرب والمسلمين: أولئك الذين يركنون الى الذين ظلموا من بين اسرائيل، ويجتهدون في تسويق ما يفعله غلاة الصهيونية،

ويطالبون ـ بهذه الصورة او تلك ـ بـ(تبني المفهوم الاسرائيلي لترتيب اوضاع المنطقة وتوجيه مصائرها).

ومن حق اليهود العقلاء الاحرار ذوي الضمائر الحية في هذا العالم ان يرفعوا اصواتهم، وان يجهروا بنقد سياسات صهيونية تسقط بظلالها الكئيبة على يهود العالم. فأيما مؤرخ سياسي، او خبير استراتيجي يرصد شؤون المنطقة العربية في العقود الماضية، يلتقي بحقيقة لا شك فيها وهي: ان اسرائيل هي وراء معظم الازمات والكوارث في المنطقة العربية، ويلتقي ـ من ثم ـ بعلة العلل في هذا السلوك الاسرائيلي وهي: ان غلاة الصهيونية ينطلقون من (مسلمة شريرة) في التعامل مع المنطقة، مسلّمة: (ان أمن اسرائيل واستقرارها مرتبطان ـ مبدئيا ووظيفيا ـ بان تظل المنطقة العربية: مضطربة غير مستقرة، متفجرة غير هادئة، ضعيفة كسيحة غير قوية، متخلفة غير متقدمة). وبناء على هذه المسلمة تقوض اسرائيل كل فرصة لـ(السلام الحقيقي)، بل تقوض كل فرصة لـ(السلام النسبي).. واظهر واقوى مثال او دليل على ذلك: تعاملها مع اتفاق اوسلو. فلو ان اسرائيل كانت صادقة في تطبيق هذا الاتفاق. وباشرت تطبيقه فعلا مذ وقع، لتفادت المنطقة زلازل شديدة حدثت في غيبة الارادة الاسرائيلية الجادة في تطبيق اتفاق اوسلو.. وقد يقال: ان اوسلو لم يتضمن ما يطمئن اسرائيل على حاضرها ومستقبلها في مجال الأمن والاستقرار والسلام.. وهذه مقولة مخادعة او كذوب:

اولا: ان اوسلو صيغ وفق الرؤية الاسرائيلية للنزاع والتسوية، وهو كان كذلك لان موازين القوى كلها في صالح اسرائيل. ومن كانت في يده كل موازين القوى لا يوقع على اتفاقية تهدد أمنه وسلامه!!

ثانيا: ان البنود المفصلة لاتفاق اوسلو. ينطلق كل واحد منها: بان مصلحة اسرائيل هي العليا والراجحة، ولا سيما في مجال الأمن والمياه وقضايا العودة وملامح الدولة الفلسطينية الخ.

ثالثا: في ظل اوسلو حصلت اتفاقات عديدة بين الفلسطينيين واسرائيل، بيد انها اتفاقات نقضت من جانب اسرائيل، ومنها ـ على سبيل المثال ـ: خارطة الطريق.

هذا كله يبرهن على (مناهضة اسرائيل للسلام) وفق نظرية: ربط امنها: بالاضطرابات المتتابعة والمتفاقمة والدائمة في الوطن العربي.. ولكن هل يعني هذا: اعفاء الذات العربية من التبعية والمسؤولية؟.. لا.. من هنا الى يوم القيامة.. فعرب من العرب تاجروا كثيرا وطويلا بالقضية الفلسطينية وبالصراع مع اسرائيل.. وعدم الارادة والجد في هذه القضية: شجع اسرائيل على المزيد من ظلمها وطغيانها وهما ظلم وطغيان تسببا في تفجرات وكوارث ماحقة ـ ثم خنع عرب من العرب للمفاهيم والترتيبات الاسرائيلية لحاضر المنطقة ومستقبلها، وهو خنوع زاد البلاء، ولم يزله.

ان الانفجارات الهائلة في فلسطين ولبنان اليوم انما هي (تعبير جسيم دام عن تراكمات تكونت على آماد زمنية معروفة).

ووفق (منطق السببية)، فإن لهذه التراكمات اسبابها الموضوعية. ومن هذه الأسباب: عقم التفكير.. وفقدان الرؤية الاستراتيجية. واستهتار التصرف السياسي من قبل معظم الحكام العرب. فالمعالجة بـ(التقسيط) ـ في اطار الرؤية الشاملة الممتدة الى أمام ـ هي التي تمنع من وجود التراكمات.. أما (الصهينة الطويلة) عن المعالجات لا بد ان تبوء على اصحابها بالفجائع الدورية المتصاعدة، أي التي يكون لاحقها اعتى من سابقها.. إن قادة عربا كثيرين يفرطون ويسترخون.. ثم يضجون حين تقع ازمة. وكأن هذه الأزمة ليست الثمرة المرة المسمومة لسلوكهم وتصرفاتهم!

في الأسبوع الماضي كتبنا مقالا عن ان (ازمة البشرية اليوم: مشكلات عملاقة وقادة أقزام).. وقد ورد في ذلك المقال الفقرة التالية: «ان الأزمة عملاقة طاحنة أي بين العرب واسرائيل وما لم تنف الأسباب المقوضة للسلام الحقيقي، فإن الخيارات هي: ان تظل الحال على ما هي عليه، وهي حال مشحونة بنذر ومخاطر لا يتصور مداها الاقزام اليهود ولا الأقزام الأمريكان ولا الاقزام العرب، ومن صميم هذه المخاطر ان يتوهم احد انه قادر على السيطرة على الوضع في الوقت المناسب.. أما الخيار الثاني فهو مزيد من الضغط على الفلسطيني الجريح الطريح. وبهذا الضغط ستنفجر انتفاضة ثالثة: أوسع وأشد وأعتى، ومن المرجح ان تشمل هذه الانتفاضة قطاعات واسعة من غير الفلسطينيين في المنطقة».. ولم تكد تمر ساعات على هذا الكلام (الاجواء المشحونة بالنذر واتساع نطاق المقاومة او الانتفاضة) حتى مادت الأرض بالانفجار الكبير في لبنان. وبالقطع لم نكن نتنبأ، ولا نتكهن، ولا نرجم بالغيب ونحن نكتب تلك الفقرات. فما من عاقل إلا يجتهد في عصمة نفسه من التنجيم والتنبؤ والتكهن. ثم ان هذه خرافات محرمة في عقيدة الاسلام. بيد ان القراءة الصحيحة للتراكمات وسياقات الأحداث تقود الى تلك الرؤية.

واليوم: نصعد الصراحة لنقول: ان المنطقة مشحونة بالاحتمالات او النذر التالية:

1 ـ عودة دوامة الانقلابات العسكرية الى المنطقة. فالظروف اليوم تكاد تكون شبيهة بالظروف التي اعقبت قيام الدولة العبرية ـ مع اختلاف نوعي في المعطيات العامة ـ. ذلك انه لم تكد اسرائيل تقوم حتى ارتجت الأرض العربية بالانقلابات العسكرية.

2 ـ اندلاع ثورات شعبية عاصفة.

3 ـ (تعريب) المقاومة او الانتفاضة، بمعنى انها تصبح انتفاضة عربية عامة لا فلسطينية خاصة.

4 ـ دوامات من الأزمات المتلاحقة: تفقد كل بلد عربي، وكل نظام عربي طعم الراحة والأمن والاستقرار.

وقد يندرج ذلك كله في نظرية (الفوضى الخلاقة)، او في النظرية الاسرائيلية (استقرارنا مشروط دوما باضطراب المنطقة العربية).