«حزب الله» و«حماس»: العتب الكبير... والعتب الأكبر

TT

يعيش لبنان حالة يقظة إزاء الذي حدث له. ويبدو اللبنانيون كأفراد وليسوا فقط كقيادات سياسية وحزبية منقسمين، كما لم ينقسموا من قبل حول موضوع المقاومة، بعدما كانوا في الماضي يشدون من أزرِها ويقتصر التباين في الرأي على شكليات مثل أن تكون هذه المقاومة جزءاً من حالة دفاعية وفصيلاً مسانداً للجيش النظامي.

حالة اليقظة هذه سببها أن مغامرة الثاني من أغسطس (آب) 1990 متمثلة بالغزوة الصدَّامية للكويت، تجددت يوم 12 يوليو (تموز) 2006 متمثلة بالعملية التي نفَّذها مقاومون من «حزب الله»، وكانت، إذا جاز القول، مثل فتح بوابة جهنم على لبنان. وخلال لحظات انتقل لبنان المبتهج بموسم صيف مزدهر، من شأن مردوده تعويض الكثير من خسائر المواسم الماضية، إلى بلد دمر الإسرائيليون خزانات وقود مطاره، فذكّرنا المنظر بنيران آبار نفط الكويت، التي اشعلها الغزو العراقي. كما دمر الاسرائيليون مدرجات المطار الذي هو أحد انجازات الشهيد رفيق الحريري والذي (أي المطار) كان يستقبل على مدار الليل والنهار عشرات الرحلات لطائرات الركاب العربية والدولية، وكذلك الطائرات الخاصة الصغيرة. وفي لحظات أيضاً بدأت عشرات العائلات الخليجية التي أصرت على تمضية الصيف في لبنان، غير عابئة بنصائح من المحاذير، تطرق أبواب سفارات بلادها من أجل تأمين تسفيرها عبر الطريق البرية، التي سرعان ما نالت هي الأخرى نصيبها من القصف الاسرائيلي، إلى جانب عشرات الجسور ومحطات الكهرباء وهوائيات الهاتف المحمول. وبعدما كان أصحاب المحلات والفنادق أعدوا العدة لمجاراة الموسم المزدهر فإنهم وجدوا أنفسهم في وضع مأساوي. وأما مستشفيات لبنان، فإنها بدت مستنفَرة لاستقبال الجرحى.

يصعب على المرء وصف حالة الهلع التي أصابت الناس، وكيف أن الطائرات من الجو، والبوارج من البحر تقصف وتدمّر من دون أن نلاحظ وجود قوات أمن وجيش في الشوارع أو تكون هنالك صفارات إنذار التي هي احدى مستلزمات تفادي مخاطر العدوان. ويتابع اللبنانيون المغلوبون على أمرهم من على شاشات الفضائيات، هذا العبث ببلدهم وطمأنينتهم. ومع المتابعة كانت هنالك عشرات التساؤلات التي من المفيد تسجيل بعضها هنا على سبيل المثال:

ـ لماذا افتعال ذلك وفي بداية موسم الصيف؟

ـ ومِنْ أجل مَنْ ذلك؟ هل هو من أجل لبنان أم مِنْ أجل الغير؟

ـ وهل ان الدولة اللبنانية على معرفة مسبقة بعملية «الوعد الصادق»، التي نفّذها «حزب الله» أم أن الحزب اعتمد المباغتة؟

ـ وفي الإطار نفسه: ان رئيس الجمهورية العماد اميل لحود محسوب على المقاومة، وإلى درجة أنه اذا كان السيد حسن نصر الله هو الأمين العام لـ«حزب الله»، فإن اميل لحود هو الرئيس الفخري لهذا الحزب، كونه لم يسجل ولو مرة واحدة خلال ثماني سنوات رئاسية، ما يعكس رأياً سلبياً في الحزب والمقاومة.. بل ان «حزب الله» هو سنده القوي بمثل ما إنه بحكم المنصب الذي يشغله كرئيس للجمهورية هو خط التصدي الاول لمن يريد سوءاً بالحزب. ولذا فإذا كان الرئيس لحود أُحيط علماً بالعملية وباركها، فإنه يتحمل وزراً كبيراً، ويُعتبر شريكاً في المسؤولية، لأنه بحكم ما يملكه من خبرة كقائد جيش سابق وما يملكه من تحليلات يضعها مستشاروه امامه، وما يعرفه من وقائع، يدرك ولا بد كيف أن الذريعة تُشعل حرباً وليس فقط عدواناً. اما اذا كانت العملية تمت من دون عِلْمه فإن الوزر يصبح أكبر، وبالتالي يصبح من واجب رئيس البلاد ان يسجل موقفاً في الذي حدث، وهو موقف لن يكون على الإطلاق لمصلحة العلاقة التي بينه وبين «حزب الله».

ـ في الإطار نفسه أيضاً: هل إن الأمين العام لـ«حزب الله» أحاط حليفه المذهبي والاستراتيجي نبيه بري، بصفة كونه رئيس «حركة أمل» الفصيل الشيعي الثاني من حيث الأهمية، عِلْماً بالعملية أم أن بري الذي يترأس مجلس النواب فوجئ كما كل النواب، ربما عدا نواب «حزب الله» أو واحداً من هؤلاء فقط، بالعملية فوجد نفسه بين نار التأييد إن هو بارك، ومآخذ عدم التأييد إن هو التزم الصمت. وعلى هذا الاساس، فإن الشراكة الاستراتيجية بين الاثنين بعد الذي جرى ستتأثر في حال ان نبيه بري كان من بين المباغَتين (بفتح الغين).

ـ في الإطار نفسه ايضاً وايضاً هنالك الحليف المسيحي لـ«حزب الله»، ونعني به الجنرال ميشال عون الذي أدت العملية به إلى فقدان التوازن. فهو من المؤكد لم يُحط عِلْماً بالعملية ولا هو أصلاً يتوقعها. ونقول ذلك على أساس انه لو كان يتوقع مثل هكذا عملية، لكان ارتأى عدم عقد صفقة التحالف السياسي مع «حزب الله». وما يقال بالنسبة الى الجنرال عون، يقال ايضاً بالنسبة الى حلفاء صغار آخرين. ومن المؤكد ان تُحالف «حزب الله» ـ ميشال عون، بات في ضوء العدوان الاسرائيلي ورقة تناثرت معنوياً في الهواء. وإلى ذلك ما الذي كان سيحدث لو أن «حزب الله» ارجأ العملية إلى ما بعد انتهاء موسم الصيف.

بعد هذه التساؤلات لا بد من وقفة امام رد الفعل العربي ازاء عملية «حزب الله» والعدوان الاسرائيلي على لبنان، ومِنْ قبل ذلك على «غزة الحماسية». وما يمكن قوله هو أن هنالك حالتين من العتب العربي في هذا الشأن. العتب الكبير على «حركة حماس»، لأنها لم توظّف فوزها في الانتخابات بما يعزز التوجه السياسي في سبيل تحقيق تسوية للصراع العربي ـ الاسرائيلي. وهي لو بادرت على الفور ومنذ ان بات من حقها ترؤس الحكومة الى تشكيل حكومة لكل فلسطين وإسناد وزارة الخارجية الى شخص مقتنع بالتسوية وبادرت ايضاً الى اعلان موافقتها على «المبادرة العربية» لكانت الآن بالتأكيد في وضع افضل. لكنها لم تفعل ذلك مع ان المجتمع الدولي ومعه كل الانظمة العربية عدا سورية، وكل الأنظمة الاسلامية عدا ايران، كانت تنتظر منها ذلك. وبدل أن تفعل ما نشير اليه فإنها سارت في الركب السوري ـ الايراني، وها هي تنتهي على نحو ما تعيشه الأطياف الفلسطينية من سوء كان في الامكان بالقليل من التضحية والكثير من الحكمة وبُعد النظر تلافيه. وهي بدل أن تلوم العرب لأنهم لا يقفون الى جانبها، يجب ان تلوم نفسها لأنها تصرفت بما يُملى عليها من قيادة «حماس» المغتربة المكوكية المتنقلة بين دمشق وطهران وبيروت بين الحين والآخر. واذا كان لا بد من كلمة حق يراد بها الحق ولا شيء غيره، فإن العتب العربي على «حماس» كبير وهو في محله، كونها ظلمت نفسها ووضعت الأشقاء العرب في الموقع المحرج لا تتجاوز وقفتهم الى جانبها ما نراه اليوم، في حين أن تأييدها لـ«المبادرة العربية» كان سيجعل الوقفة تتسم بالنخوة.

هذا هو العتب العربي الكبير على «حماس». أما العتب الأكبر على «حزب الله»، فلأنه يغامر بالوطن الصغير لبنان من أجل التخفيف من مأزقين وضع اصحابهما أنفسهم فيهما نتيجة عدم الأخذ بالنظرة الواقعية للظروف الإقليمية والدولية. ولو أن عملية «حزب الله» خضعت قبل التنفيذ للتشاور العربي غير المباشر، لكنا سنجد نسبة من ينصح بعدم الإقدام عليها هي الراجحة.. بل حتى لا نجد من ينصح بها على الإطلاق، لأن الثمن سيكون تدمير خمس عشرة سنة من البناء والتأهيل والترميم لبلد صغير تكفيه ويلات عشرين سنة مضت من الاحتراب. وإلى ذلك فلو كانت عملية «الوعد الصادق» التي نفّذها «حزب الله»، هي بالفعل لبنانية المنطلقات والأهداف لكانت نظرة الأشقاء العرب إليها مختلفة. لكن هؤلاء يرون أن «حزب الله» وضعهم أمام حالة تثير الدهشة: العملية لمصلحة إيران خصوصاً انها من حيث التوقيت حدثت في اليوم الذي أعادت فيه الدول الخمس الدائمة العضوية زائداً المانيا الملف النووي الايراني إلى مجلس الأمن، وهذا دفع بإيران وبما لها من خصوصية العلاقة والتأثير مع «حزب الله» عمقها الاساسي في المنطقة العربية، الى استعمال ورقة التفجير من خلال الحزب، الذي نفَّذ العملية الشجاعة بكل المقاييس بهدف مؤازرة «حماس» والإفراج عن الأسرى، معتمداً في ذلك وتشاركه الاعتماد ايران، على انه قد آن الأوان للاستفادة من ألوف الصواريخ المنصوبة على جبهة الجنوب للوي الذراع الأميركية ـ الإسرائيلية، وقبل أن يصيب هذه الصواريخ ما أصاب صواريخ العراق الصدّامي، التي عاشت الأمة بمرارة مشاهد تفجيرها القسري والمدفوعة تكلفة التفجير من النظام العراقي الذي كان المجتمع الدولي رد غزوته.

ومن المؤكد لو كانت عملية «حزب الله» لبنانية على نحو النظرة العربية الشاملة لها، لما كان الموقف العربي على الفتور الذي نلاحظه، ولما كانت الدولة الأكثر اقتداراً المملكة العربية السعودية، تلخص موقفها من الذي حدث في لبنان بالقول «إن المملكة التي وقفت بحزم مع المقاومة في لبنان حتى انتهى الاحتلال الاسرائيلي للجنوب اللبناني، إذ تستعرض بقلق الأحداث المؤلمة الدامية التي تدور في فلسطين ولبنان، تود أن تعلن بوضوح انه لا بد من التفرقة بين المقاومة الشرعية، وبين المغامرات غير المحسوبة التي تقوم بها عناصر داخل الدولة ومِنْ ورائها دون رجوع الى السلطة الشرعية في دولتها، ودون تشاوُر أو تنسيق مع الدول العربية فتوجد بذلك وضعاً بالغ الخطورة يعرِّض جميع الدول العربية ومنجزاتها للدمار، دون أن يكون لهذه الدول أي رأي أو قول. والمملكة ترى أن الوقت قد حان لأن تتحمل هذه العناصر وحدها المسؤولية الكاملة عن هذه التصرفات غير المسؤولة، وأن يقع عليها وحدها عبء انهاء الأزمة التي أوجدتها...».

وإذا جاز القول، فإن موقف كل الدول العربية هو من هذه الرؤية. وحتى الحكم السوري الذي قد تكون العملية باغتته لا يمكنه أن يبارك، لكن تحليقه داخل السرب العربي قد يشكل السلامة له. فهل سيفعل وبكل الوضوح المطلوب؟

وتبقى الإشارة الى أن السعودية بالموقف المشار اليه، لا تعني انها فقط تساند المقاومة المستقلة عن التأثير الخارجي أو أنها فقط تساند بالدعم المالي والسياسي، وانما تشارك بثُقل في ضوء اقتناعها بصوابية العمل، بدليل أن اثنين من خيرة أبناء الملك عبد العزيز، وهما الأميران الشقيقان فهد وسلمان عندما كانا في القاهرة لطلب العلم عام 1956 وحدث العدوان الثلاثي على مصر، فإنهما وقفا بين الواقفين في طابور التطوع في المقاومة.

ونستخلص من هذا كله أن العتب العربي الكبير على «حماس»، والعتب العربي الأكبر على «حزب الله»، هما نتيجة انهما لم يحسنا التعامل مع الواقع، وتركا هامشاً رحباً للتأثير الايراني والسوري على ما يقومان به. ومِنْ هنا فإن العتب في محله.. وإنه عتب مرفوع.