تهديد الوحوش غير المرئية

TT

سحب رمادية تتجمع وتتكثف مالئة رأسي بلونها الداكن. أحمل الثقل وأتمنى هطول الدمع. تجذبني مساحة الصمت فأجدني في عنفوان التوتر. ألوذ بغرفتي معادل الرحم لأكون بداخلها الجنين الذي لا يرغب في الميلاد توقا إلى النكوص نحو قبل البداية، ليست مناشدة للموت لكنها مناشدة للمستحيل، مناشدة يا ليتني لم أكن لكن كينونتي كانت فتخضع هامتي وأحمد الله مسلمة له وجهي فيغسله الندى.

 ***

الفيانيجاتيفا، اقترحها جروتوفسكي في مسرحه الفقير، الإلغاء، توفير الجهد، الاقتصاد في الاحتياج، كبح الثرثرة، التلخص في الضرورة بعد تكثيفها لكيلا تشغل إلا الحد الأدنى في الحيز، التحرر من الترف والسرف وسوقية التخمة. أدار جمال حمدان ظهره للضوضاء ليتبتل في حياة الضرورة المختزلة. لم ينعزل جمال حمدان، لكنه عزل الضجيج عن مكتبه وأبحاثه واختار صحبته بعناية: القلم والورق والعقل المتوهج المتفاعل في الردهات الرحبة لعمائر الفكر. حدد الاهتمام وبلور الجوهر فتوضح لديه الملغى وتخلص من وطأة الحمولة الزائدة والزحام الكاذب ومهاترات الجدال النافق. حوّل الموقف الشعري من فكرة مجردة إلى واقع عاشه والتزم بالنظرية الصعبة حياة يومية وتفرغ لتدوين الدفاع عن ذات الوطن/الأمة، لتحصينها بالرسائل الإيجابية في مواجهة العدوان الداخلي والخارجي، الأهلي والأجنبي، لكن الضجيج تسرب إليه رغم تحوطاته، تجسد في مؤامرة لاغتياله أخذت شكل اسطوانة غاز تحمل هوية الضمائر غير المكترثة. آه لو أنه كان قد استغنى عنها ولو بحك حجرين ليولدا موقدا من عصر الإنسان الأول!

 ***

كانت السباع والضباع والذئاب والأفاعي والعقارب وغرائب الوحش في البر والجو والبحر، مع الزلازل والبراكين والصواعق، قوى التهديد لابن آدم حين حط على الأرض بيته، لكنه عرف الآن، كذلك، تهديد الوحوش غير المرئية: التلوث بكل مفسدات الماء والفاكهة وما لذ واشتهته النفس من أمن وطمأنينة. الذعر طوق ملتف حول الأعناق، والجسد مرتع لمفاجآت المرض البغتة.

خذنا على كفوف لطفك يا ربنا، ولا تحاسبنا بأعمالنا، جازنا برحمتك، فأعمالنا، مهما أتقنا التضرع، غير كافية.

 ***

تخايلني وحوش العصر غير هيابة للسباحة في بحار القسوة تجعلها مدادا لمخالبها تنقش بها مخازيها: صور من القبح والدمامة لا تغيب.

إلى الغرفة الرحم يصعد ضجيج الافتراس، يزداد توتري لصراخ بين النجاة والموت، لا أملك دفع الأذى:

خذنا على كفوف لطفك،

خذنا على كفوف لطفك.