هل نعيد اختراع الأبجدية كي تتعلموا القراءة؟

TT

في تعليق له على نشوب الحرب الحالية في الشرق الأوسط، قال ستيفن هادلي رئيس مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، «إذا كان هناك عدد من القضايا تتحرك في الشرق الأوسط، فبمعنى ما كان مقدراً لهذه القضايا أن تتحرك. لدينا رئيس يرغب في مواجهة القضايا الكبرى ليرى ما إذا كان يستطيع أن يحلّها في الوقت المناسب». ويصرّ طبعاً على أن السياسة الأمريكية حيال الشرق الأوسط، كانت وما تزال سليمة. أما وزيرة الخارجية الأمريكية فقد ألقت اللوم على «حزب الله»، لأنه يزعزع «استقرار المنطقة»، بينما قالت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت: «لم نكن نعير انتباهاً كافياً للكثير من المسائل في الشرق الأوسط». أما الرئيس بوش فاكتفى بتحميل إيران وسورية مسؤولية ما يجري واتهمهما بمساعدة «حماس» و«حزب الله». وغني عن القول طبعاً، أن جميع هؤلاء طالبوا بالإفراج عن الجنديين الإسرائيليين، ولكن أحداً منهم لم يطالب بالإفراج عن أي من النساء والأطفال وأعضاء البرلمان المنتخبين والوزراء المنتخبين والمختطفين في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ سنين.

لقد وجدتُ في ردود الفعل الأمريكية هذه، على انفجار الوضع في الشرق الأوسط، خطورة لا تقلّ عن خطورة استمرار اشتعال الحرب، ذلك لأن ردود الفعل هذه تُري أن القوة العظمى الوحيدة في العالم لا تريد، أو لا تستطيع، أن ترى الأمور على ما هي عليه في الشرق الأوسط، بل تسمع وترى وتصرح وتتصرف، وكأنها الجانب الإسرائيلي نفسه، وليس القوة العظمى التي عليها أن تتحمل مسؤوليات دولية تجاه قضايا الحرب والسلم في العالم، وهذا ما أدى إلى انفجار الوضع بهذا الشكل في المنطقة. فالمفاهيم في أذهانهم، والجمل في تصريحاتهم، مجتزأة تروي جزءاً من الحقيقة وتهمل الجزء الآخر الذي يشتعل غضباً في ضمائر وأذهان ضحايا الاحتلال والقهر والعدوان، ومن ثمّ ثورة على الإذلال والظلم والقتل اليومي المستمر منذ سنين للأطفال والأمهات والشباب. فكيف يمكن لرئيس الولايات المتحدة، التي تباهي العالم بدستورها العادل، أن يصرّح أنّ «لإسرائيل حقّ الدفاع عن نفسها»، ويتوقف هنا، أوليس للعرب أيضاً «حقّ الدفاع عن أنفسهم وحقوقهم وأرضهم وكرامتهم؟»، وإذا كان هو لا يريد أن يعترف للعرب بذلك الحقّ، فهذا لا يعني أبداً أنه يمكن له إلغاء هذا الحقّ من ضمائرهم، ومن أسس الشرعية الدولية والأخلاق الإنسانية. لقد كان تعبير رئيس مجلس الأمن القومي عما يجري في الشرق الأوسط مرعباً في تجريديته، وخلّوه من أي شعور حقيقي يقارب من قريب أو بعيد، ما يشعر به الناس في المنطقة. فكيف يمكن له أن يصف تدمير إسرائيل للجسور والمدارس والمساجد والبيوت الآهلة، ومحطات الكهرباء ورياض الأطفال وارتكاب المجازر الدموية اليومية في غزة وجنوب لبنان بعبارته «هناك قضايا تتحرك في الشرق الأوسط»؟ ماذا تعني هذه العبارة؟ لقد برع الأمريكيون في السنوات الأخيرة باستخدام لغة ومصطلحات يصفون بها الوضع في الشرق الأوسط لا تعني شيئاً، بل تزيد من غضب العرب ونقمتهم، لأنها تشكّل تجاهلاً مطلقاً لمشاعرهم وحقوقهم ومعاناتهم، وذلك بعد أن قررت الإدارة الأمريكية الحالية التخلّي عن الاستمرار في عملية السلام على أسس الشرعية الدولية وقرارت مجلس الأمن، والسماح لإسرائيل باستخدام القوة والعنف لاحتلال المزيد من الأراضي العربية، وتهجير المزيد من السكان الأصليين أو قتلهم، واتهام كلّ من يقاوم هذا الظلم والإرهاب العسكري المنظم بأنه إرهابي، ومن ثمّ دعم إسرائيل في ارتكاب كلّ هذه الجرائم بالسلاح والتمويل، وأيضاً بإساءة استخدام حقّ الفيتو لمنع انعقاد مجلس الأمن لمناقشة أي مظلمة يشكو منها العرب، ولمنع إدانة أي جرائم تقوم بها إسرائيل ضدّ العرب في أي مكان. واستكمالاً لما قالته السيدة أولبرايت في تعليقها الذي يبدو معقولاً للوهلة الأولى، فإن الولايات المتحدة لم تعر انتباهاً للعديد من المسائل، ولم تقم وزناً على الإطلاق لحياة العرب وكرامتهم وحقوقهم.

لقد جهدت إسرائيل في السنوات الماضية بإطلاق حملات إعلامية تستخدم تعابير لغوية مركزة، تواكب أعمالها الإجرامية، تهدف إلى إقناع العالم بأن الإسرائيليين والفلسطينيين طرفان متنازعان على بعض المسائل، وحاولت أن تغيّب بهذه الطريقة المشوّهة عمداً قضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، واغتصاب إسرائيل للحقوق العربية، ومن أهمها حقّهم في القدس وحقّ اللاجئين في العودة، حيثُ يتحرك قادتها ضمن الوهم المغلق المستحكم بعقيدتهم، ألا وهو أن قوّة السلاح والمال والإعلام يمكن أن تحقق لإسرائيل أهدافها في سحق العرب وحقوقهم ونضالهم من أجل الحرية والكرامة، وهم بذلك يتجاهلون حقيقة إنسانية خالدة، وهي أن إيمان الإنسان بأرضه وحقوقه وكرامته، لا يمكن أن يُقهر مهما طال أمد الظلم والعنف والقتل الهمجي ومهما طغى الظالمون، وتجبّروا بغطرستهم العسكرية. والفرق الأساسي في هذا الإطار يكمن في التكوين الثقافي والتاريخي المختلف للمحتلّين والمستوطنين عن أبناء السكان الأصليين، الذين ورثوا هذه الأرض منذ آلاف السنين والمستعدين لإشباعها بدمائهم، بدلاً من التخلّي عنها أو الهجرة عنها. وبدا هذا الفرق واضحاً بين صفد في شمال إسرائيل وبين الجنوب اللبناني، ففي الوقت الذي خلت صفد ومحيطها من المستوطنين، كان سكان الجنوب اللبناني يمارسون أعمالهم اليومية وسفرهم كالمعتاد رغم ارتكاب إسرائيل المجازر البشعة بحقّ السكان المدنيين الأبرياء وقصفها المنشآت الحيوية من جسور ومحطات كهرباء وبنية تحتية والمنازل ورياض الأطفال، لارتكاب مجازر همجية متعمدة بقصد إرهاب السكان. وقد اقترب الكاتب والمحلل في «النيويورك تايمز» ستيفن إيرلنغر من الحقيقة، حين قال في مقال له في 13 تموز 2006 «إن المسألة بالنسبة إلى إسرائيل، ليست فقط الفلسطينيين وأعمالهم، بما فيها الصواريخ «الموجهة» إلى إسرائيل ـ ولكن المشكلة الأكبر في الإسلام الراديكالي»، إن الجزء الأول من عبارته صحيح.. أن المشكلة بالنسبة لإسرائيل ليست فقط الفلسطينيين وصواريخهم ولكنّ المشكلة هي الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وهضم حقوق العرب وخرق كلّ قوانين الشرعية الدولية والتي تنصّ على حلول عادلة وشاملة للصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتي أعلن العرب جميعاً قبولهم بها بينما رفض قادة إسرائيل الجلوس إلى طاولة المفاوضات لأنهم مشبعون بعقيدة همجية تؤمن وتمارس بدلاً من ذلك الاغتيالات والدمار والقصف والغزو والقهر والعدوان وحرمان السكان من المياه والغذاء والكهرباء والجسور والمطارات والأدوية، وهي أساليب استخدمها الطغاة في القرون الوسطى. أولم يخطر ببال مخططي سياسة الاحتلال أن يفكروا في أنهم لن يتمكنوا من اغتيال كل قادة المقاومة، وأن الأمهات ستلد مقاومين وقادة لهم ما دام هناك حقوق مغتصبة وكرامات مهانة وأرض مدنسة بالاحتلال الأجنبي.

إنّ ما برهن عليه الانفجار الأخير للوضع في الشرق الأوسط هو أنّ قراءة الإدارة الأمريكية لما يجري في الشرق الأوسط، هي قراءة فاشلة تتعامى عن الحقائق، لأنها منغلقة آيديولوجياً داخل عدائها العنصري ضدّ العرب وكره عقيدة المحافظين للإسلام، كما تبرهن تصريحات قادتها وتجرّد اللغة المستخدمة من أي معنى أو مفهوم له علاقة بالواقع الفعلي الملموس، وبذلك تفقد الولايات المتحدة في مثل هذه الأحداث الدولية الخطيرة دورها الدولي القائد، وتتحول إلى مجرد دولة كبرى متورطة في نزاع إقليمي طويل يستنزف إمكاناتها وهيبتها ودورها الدولي، لأنها متورطة في دعم دولة عدوانية توسعية لا تقف أطماعها عند حدود ضدّ شعب يكافح من أجل الحريّة والاستقلال والديمقراطية! كما برهنت الأحداث الأخيرة أن العرب جميعاً قد تعبوا من الإذلال وتجاهل أسراهم وقضاياهم وشهدائهم والمجازر التي تُرتكب بحقّهم، وأنهم يئسوا من أي عدل أو إنصاف تمارسه القوة العظمى أو الشرعية الدولية، واقتنعوا أنه لا بدّ لهم من العمل لاسترداد كرامتهم وحقوقهم. كما برهنت الايام الأخيرة وردود الفعل عليها أنّ فلسطين هي القضية المركزية للعرب جميعاً، ولولا ضغوط الإدارة الأمريكية المباشرة وغير المباشرة على الحكومات العربية، لرأينا العرب جميعاً من المغرب إلى العراق مندفعين لدعم الأعمال التي تسترد كرامتهم وحقوقهم. ولذلك على الولايات المتحدة وإسرائيل أن تقتنعا أنّ السواتر الترابية وترسيم الحدود لا يقفان حائلاً بين الجماهير العربية التي ترتبط بأواصر الثقافة والتاريخ واللغة والمقدسات، وأنّ هذه الجماهير ترى التحيّز الأمريكي اللامعقول لمنطق القوّة الذي تستخدمه إسرائيل في الاحتلال والظلم والعدوان. وها نحن نرى أنّ زيارات وزيرة الخارجية الأمريكية إلى لبنان وأحاديثها عن العلاقات المتميزة بين لبنان والولايات المتحدة، لم تثمر حتى في إدانة العدوان الإسرائيلي على شعب لبنان وأرضه وبنيته التحتية. وهكذا فقد برهنت الأيام الأخيرة أنه حين يتعلق الأمر بمصلحة إسرائيل، فإن الولايات المتحدة لا تقيم وزناً لأيّ من العرب مهما أظهرت من مجاملات تجاه بعض السياسيين في أوقات أخرى. وخلاصة القول هو أنّ الانفجار الأخير للوضع في الشرق الأوسط، يبرهن دون أدنى شكّ أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي هو جوهر الصراع في المنطقة، وأن قضية فلسطين تحتلّ القلب في هذا الصراع، وأنّ قراءة الدولة العظمى الوحيدة في العالم لمجريات الأمور في الشرق الأوسط، هي قراءة خاطئة تماماً، ولن تجلب سوى المزيد من الحروب والعنف، لأنها تتجاهل مبدأين أساسيين في حل الصراعات وهما العدل والكرامة.