محاولة تفكير هادئة وسط دخان المعارك

TT

في مثل هذه الأيام العصيبة، تتعدّد المواقف والخطابات. فبين المعلقين مَن يميل إلى الصمت والانتظار ريثما ينجلي غبار المعركة عن رابح وخاسر... فيسهُل إذ ذاك عليه الاصطفاف وتبرير هذا الاصطفاف.

وبينهم فريق ثانٍ يتعجّل الجزم القائم على التمني، مع تسويغه لاحقاً في حال جرَت الرياح بما لا تشتهيه السفن، بأن «الحرب معنويات»... وأن جزءاً أساسياً من كسبها يقوم على النجاح في رفع الروح المعنوية للحليف وإحباطها عند العدو.

وبينهم فريق ثالث صار، بحكم العادة وتراكم الإحباطات على الساحة العربية، مستعداً في أي لحظة للتفاؤل المفرط المعلق بحبال الهواء، ومقنعاً النفس بفضائل «أنا الغريق فما خوفي من البلل».

وبينهم فريق رابع قد يكون في الأصل انهزامياً، وربما يكون أيضاً واقعياً، لكن بؤس الحالة العربية «ستر» انهزاميته التلقائية... فجعلها تبدو كما لو كانت حكمة وواقعية.

وبينهم فريق خامس يبدو ظاهرياً وكأنه يقول الشيء وعكسه، كحال طيف واسع من اللبنانيين العقلاء، لكنه مثل «بالع الموسى»، الذي يستحيل عليه الموافقة على تدمير الوطن بترسانة عدو حقود وفاشي، وهو الذي يدرك ـ قبل غيره ـ نمط تفكير هذا العدو وأطماعه وعدوانيته من واقع المعايشة الطويلة على امتداد عقود. فلا أحد بمقدوره أو من حقه أن يحاضر للبنانيين عن طبيعة الصهيونية و«فلسفة السلطة» الإسرائيلية طالما بقيت إسرائيل دولة تقوم على التميز الديني والتفوق العسكري. ولكن هذا الفريق يشعر، في المقابل، أن أي جماعة سياسية في لبنان، وبالذات إذا كانت جماعة تحمل فكراً دينياً أو مذهبياً، عليها أن تعمل ضمن تفاهم وطني واسع في بيئتها التعددية، فلا «تفتح على حسابها»، وبالذات في قضية بخطورة الحرب والسلم.

أقول ان العقلاء يبدون وكأنهم يقولون الشيء وعكسه، لأن كثرة من اللبنانيين العقلاء والشرفاء، الذين ليسوا بحاجة إلى شهادات في الوطنية من أحد، بوغتوا بعملية «حزب الله» (خطف العسكريين الإسرائيليين)، وأدهشهم توقيتها في مطلع موسم صيف يفترض أنه كان سيوفّر لما لا يقل عن مليون لبناني دخلاً يقي عائلاتهم غائلة الجوع في بلد مدين بـ40 مليار دولار. بل وأدهشهم أكثر، ما يظهر أنه استغراب من بعض ساسة «حزب الله» لحجم رد الفعل العدواني الإسرائيلي الشرس الذي يؤكد أن العدو الإسرائيلي كان على أحر من الجمر لتصفية حساباته مع المقاومة، على غرار ما فعل من غزو واحتلال تحت ذريعة الرد على محاولة اغتيال السفير في لندن شلومو أرغوف عام 1982.

ثم، وكأن كل هذا لا يكفي، أبدى بعض نواب الحزب ومناصريه من الاعلاميين خلال الأيام الأولى من الأحداث استخفافاً بخطورة ما حدث ويحدث، مكرّرين القول «إن حادثة الخطف أصبحت وراءنا... وعلينا الآن التصدي للعدوان». بجانب استهزاء أحد الإعلاميين بأهمية موسم الصيف بالنسبة لقطاع كبير من اللبنانيين معتبراً إياه مجرد «صحن حمص وبنات!!».

منطق المقاومة ودور الدولة

معلومٌ أن قرار خطف العسكريين الإسرائيليين اتخذه «حزب الله» من دون علم مسبق من الحكومة اللبنانية مع أنه يشارك فيها بوزيرين. وهذه نقطة قد لا تكون إشكالية مائة في المائة إذا سلّمنا بأن لـ«حزب الله» الحق في الاحتفاظ بسرية نشاطه القتالي، والتصريحات المتعددة الصادرة عن قيادات الحزب خلال الأشهر والسنوات القليلة الفائتة واضحة بهذا المعنى. كما يمكن أن يُدرج بين الأسباب التخفيفية للتكتم... كون الحكومة اللبنانية الحالية «ائتلافا» حكومياً فضفاضاً يجمع أضداداً إزاء العديد من القضايا المصيرية. ولكن كان من حق الحكومة اللبنانية ورئيسها، مقابل ذلك، أن توضح للعالم ككل، أنها لم تكن على علم بخطوة «حزب الله»، وبالتالي فليست مسؤولة عنها وعن تبعاتها الممكنة.

من ناحية ثانية، دأب «حزب الله» على القول انه ملتزم بـ«خطوط حمراء» وتفاهمات معينة ملزمة لا تحرج السلطات اللبنانية. وعليه، فمضي الحزب قدماً بتنفيذ قرار خطف العسكريين الإسرائيليين رغم تبينه بشاعة رد الفعل الإسرائيلي المدمر في غزة على عملية خطف مماثلة لعسكري إسرائيلي نفذها حركيّون من «حماس»... مسألة لا تخلو من الغرابة، وخطوة تنطوي على قدر كبير من المجازفة. وهنا جازف الحزب بمصير الحكومة التي هو طرف فيها، والأهم والأخطر بكثير، أنه جازف أيضاً بمصير البلاد ووضعها من جديد تحت رحمة قرارات دولية، يعرف هو سلفاً أنها لن تكون في صالحه.

اليوم يحاول نفر من ساسة «حزب الله»، والمدافعين عن توقيت عملية خطف العسكريين، التساؤل عن أي توقيت يمكن أن يكون مناسباً؟ وعن أي خطوة يمكن أن تفضي بالنهاية إلى تحرير الأسرى اللبنانيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية؟ وبصراحة، قد لا تخلو الإجابة من بعض الصعوبة، لكن من الإجابات المنطقية أن التوقيت المناسب ـ لأسباب معيشية بديهية ـ حتماً ليس في مطلع الصيف، اللّهم إذا كانت هناك تطورات غير مستحبة مرتقبة في الخريف المقبل. وهذا ما حفّز منتقدي الحزب على تناول موضوع رغبة البعض في التعجيل بانهيار الحكومة اللبنانية وقطع الطريق على تشكيل المحكمة الدولية. ومعروف أن معظم حلفاء «حزب الله»، باستثناء حركة «أمل»، متحمسون جداً لإسقاط الحكومة، وقبل بضعة أيام قال صحافي من المدافعين بشدة عن عملية خطف العسكريين وعن إسقاط الحكومة، وسبق له أن طلب للتحقيق الدولي غير مرة في موضوع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ان «اتفاق الوفاق الوطني» في الطائف «لم يحظ بتوافق وطني لأن طرفين أساسيين على الساحة اللبنانية لم يؤيداه، هما حزب الله والعماد (ميشال) عون».

وفي هذا الشأن، في الساحة اللبنانية، التي ينطلق منها «حزب الله»، ويفترض أنه حريص على سلامتها ومنعتها، ثمة جدل قائم منذ جريمة اغتيال الحريري أسفر عن توتر وانقسام وسلسلة قرارات دولية ملزمة متخذة في ظل هيمنة واشنطن على الأمم المتحدة واحتلال جون بولتون، أحد «صقور» تيار «المحافظين الجدد»، كرسي المندوب الأميركي الدائم في المنظمة الدولية.

فكيف يمكن يا ترى لعملية كهذه، بصرف النظر عن شكل رد الفعل الإسرائيلي وشدته، أن تؤثر في الساحة اللبنانية.

أحد المعلقين اليساريين اللبنانيين المناوئين لدمشق قال في سياق انتقاد «حزب الله»، انه بالرغم من التزامه وتنظيمه اليساري بمبدأ دعم المقاومة والعداء لإسرائيل، فإنه يرى تبسيطاً خطيراً في محاولة تشبيه ما يحدث اليوم من مواجهة لإسرائيل في لبنان مع ما حصل منذ منتصف عقد الثمانينات. وعدّد المعلق بين الاختلافات: ان الأراضي اللبنانية كانت محتلة في منتصف الثمانينات، بينما هي لم تعد كذلك عام 2006، وان «حزب الله» كان يحظى بإجماع لبناني حوله ما عاد للأسف متوفراً اليوم، وكان الوضع العربي أقل عرضة للضغط الأميركي عما هو عليه اليوم، ثم ان واشنطن منتصف الثمانينات غير واشنطن اليوم. وهذا الكلام كله صحيح.

فالمنطقة تعيش حالة غير مسبوقة من الغليان، في ظل الوجود الأميركي في العراق الذي أفرز حالة سرطانية تقسيمية، والمجابهة الأميركية الإيرانية في المسألة النووية بلغت نقطة حرجة، والنهج الإسرائيلي التعسفي في الأراضي الفلسطينية المحتلة يشتد بعد فوز «حماس» بالانتخابات، وصدر كلام عن قادة عرب عن «هلال شيعي» يمتد من إيران إلى لبنان. ثم جاءت جريمة اغتيال الحريري في لبنان وتداعياتها الخطيرة ـ بخاصة في شقها الطائفي ـ لتفتح أبواب احتمالات مأساوية على المستوى الإقليمي ككل.

بكلام آخر، ان المنطق يفترض أن كل هذا المشهد غير المريح لا يمكن إلا أن يكون قد ورد في مخيلة قادة «حزب الله» قبل الإقدام على خطوة من المخيف ألا تكون مدروسة... والمخيف أكثر أن تكون.

ومن ثم التساؤلات عن رهانات كبار مخططي «سيناريوهات» الفتنة في المنطقة العربية، سواء كانوا في واشنطن أو تل أبيب أو غيرهما، لم تكن في محلها أكثر مما هي اليوم.

فهل تنقشع «حرب لبنان 2006» عن إجابات؟