لبنان وحرب الصراعات

TT

من يملك الجزم بما ستؤول إليه الأمور؟ إلى أين المصير؟ حيفا وما بعد حيفا! وماذا عن لبنان وما بعد لبنان! حرب الصراعات وفرض السيطرة على إرادة الآخر، هكذا صُنفت، فماذا عن نتيجتها! وماذا عن كل الخطب والمقالات والاجتماعات والمؤتمرات التي تدين وتشرح وتتنبأ! إنها حرب لصياغة ملامح المرحلة الآتية، أما من «يتكتك» ومن يرسم، فالبقاء للأقوى، فمن الأقوى! لا داعي للإجابة، فحتى الإجابة ربما تتبدل.

الحكومة اللبنانية تصرح بعدم إحاطتها علماً مسبقاً بما حصل، ولكن خطابها الرسمي يدعو إلى الوحدة في مواجهة العدوان، فهل يعني هذا أن الجيش اللبناني سيشترك مع قوات حزب الله باستراتيجية المواجهة ولو متأخراً، هل يعني هذا ذهاب الجيش إلى الجنوب وصموده من هناك! أم أن تماسك الصف الذي دعا إليه رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة يصب في تجنب اللوم وتوجيه الانتقادات للخديعة التي تعرض لها لبنان من قبل تنظيم حزب الله، فلا ينبغي علينا أن نخلط الأوراق لمجرد أن إسرائيل هي العدو، أو كما قيل ما دام أن حربنا ضدها فنحن على حق على طول الخط، إذ ماذا عن المكاسب الإستراتيجية التي ستعود على لبنان الوطن من جراء هذا التصادم الذي فلت عياره وانفرطت سبحته؟! فالحكومة اللبنانية لها حسبتها الوطنية، أما حزب الله فحساباته الإقليمية لا تتقيد بالحدود الجغرافية للبلد، وبالرغم من أن أي جهة لا يمكن لها أن تجعل بلداً بكامله يسير في خط معين، ضمن وضع معين لمجرد أن هذه الجهة عزمت أمرها على هذا الخيار، إلا أن الواقع اللبناني ينفي وبشدة هذا الشيء ويؤكد أن الأمور جرت على غير ما تريد الحكومة وعلى نحو ما يريد حزب الله ومن وراء حزب الله، وعليه، كيف تحل العقدة! موقف الحكومة الملتبس إلى حد كبير تجسد في وقف العدوان أولاً ولكل حادث حديث ثانياً، ولكن المعضلة أن إسرائيل التي كانت تتحين الفرصة لتضرب ضربتها لن تتوقف قبل أن تنفذ شروطها الثلاثة أو هكذا نتوهم، كما أن حزب الله لن يسلّم سلاحه وإسرائيل على علم بذلك، إذن المسألة أكبر من مجرد تدمير لبنان وقصة عدم تناسب ردة الفعل مع الفعل نفسه، فنحن لن نكتشف إسرائيل اليوم حتى نستغرب عدوانها السافر والمتجاوز، إنما نحن في ماذا علينا أن نفعل وكيف علينا أن نبدأ إذا قررنا ومتى! فالأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى في المؤتمر الصحفي الذي عقد عقب اجتماع وزراء الخارجية العرب الطارئ، صرح بإجماع الدول العربية على الذهاب بالقضية برمتها إلى مجلس الأمن للبت في أمرها بشكل جذري وشامل، فإذا لم يحصل ـ والكلام لا يزال على لسان الأمين العام ـ فليتحمل المجتمع الدولي المسؤولية، مشيراً إلى كلمة السلاح، أي أن الكلمة حينها ستكون للسلاح، وللسلاح وحده، وبما أننا تعودنا على مجلس الأمن بأعضائه الدائمين استخدام حق الفيتو ضد القرارات التي لا تتناسب مع المصلحة الإسرائيلية التي تؤيدها الولايات المتحدة، فهل يعني هذا أن المنطقة موشكة على حرب إقليمية! وهل الدول العربية بحالها الذي هي عليه مستعدة لهذه الحرب! وضد من بالضبط! وهل الحكومات العربية التي اشتعل فتيل شتمها على الفاضي والمليان تستطيع التحكم في مسار الأمور وبانتفاضة شعوبها لو تدهورت الأوضاع أكثر وتمادت إسرائيل أكثر فأكثر!

بصراحة، أكبر المتفائلين ليس بوسعه أن يمارس طبيعته وسط هذا التفاعل القاتم المتسارع، فلبنان البلد الذي لم يحدد كيانه النهائي لا في حدوده ولا في فرقائه ولا في تثبيت عقيدته الدستورية القانونية ليس بالوطن الذي تحرص إسرائيل وغير إسرائيل على بقائه بصورته الكاملة النهائية، بعبارة أخرى، فليبق لبنان دولة بكيان مؤقت يمكن إزالته من الطريق يوما ما، ولن أضيف على هذه النقطة بالذات لا أفضل ولا أجمل من كلمات السنيورة التي رددها ثلاثا: سيبقى لبنان، سيبقى لبنان، سيبقى لبنان، إنما للأسف ولأن الكلمات وحدها لا تفعل فعل فوهة البندقية، ويا ليتها فعلت لكنا أسياد العالم، أقول إن بقاء لبنان اليوم يستلزم تصورا واعيا وواضحا وغير متخبط أو متناحر في التضامن وإيجاد الحل، أياً كان، وأياً كانت النتائج، فكفانا حماقة في إعطاء إسرائيل كل الذرائع لتفعل بساحاتنا ما بدا لها ولغيرها، ولا أدري لماذا نكره الدقة في ضبط الوقت والقول والفعل، فكم صادفنا من كوارث والسبب «ارتجالنا»، إنها الكلمة التي استخدمها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل ووصفت القرار العربي، وبعمق، أن العنف لم يخف شعباً في الماضي، بل دائماً ما حثه على مزيد من المقاومة والمواجهة، ولنفرض أن العنف هو جزء من تراثنا، ومن تراث الإنسانية جمعاء، إلا أنه أيضاً دائماً ما يؤدي إلى ذات السيناريو في القتل والسلب وتدمير الاقتصاد وفقدان الأمان، ومع هذا، آن لنا لندرك أن الحرية تنتزع ولا تعطى، وكل الشعوب التي نالتها تعرف أن ثمنها كان غالياً، وكل من يعتقد أن من الممكن الهروب من دفع الثمن، والاعتماد على احتمال الحصول عليها بلا تضحيات يكون واهياً ولا يصحو إلا على وقع الحوافر، ولا يحتاج المرء إلى رؤية ثاقبة حتى يتيقن أن العدو ليس دائماً في الغريب، وما قادنا اليوم إلى نهاية الشوط أننا كسرنا اللحمة الداخلية فيما بيننا، إن كان بالخيانات والمؤامرات أو حب المصالح وتضاربها، فحطمنا أنفسنا بانتظار أن يخلق هذا التحطيم حلاً، حتى أصبحت الهيمنة الخارجية علينا مطلقة، فكيف الخروج! لم يبق غير بناء ذات مقاومة للغزو، وأول شروط المقاومة تجاوز الحرب الداخلية والتخلص من فتيلها وأصحابه. كلمة أخيرة: بالرغم من كل التضحيات التي دفعها اللبنانيون يبدو أن الفاتورة لم تسدد بعد، ولكن هذه المرة لن يتحمَّلها لبنان وحده.