المواجهة بين أميركا وإيران انتقلت من العراق إلى لبنان

TT

عام 1982 عندما استباحت اسرائيل لبنان ارضا وشعبا، وقف الكثير من اللبنانيين الى جانب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك ياسر عرفات، شعر عرفات يومها بأن الفرصة مؤاتية لتحقيق النصر على اسرائيل، فأصحاب الارض يقفون الى جانبه ويحمونه وهو يتفقد الابنية المدمرة على من فيها بعد كل غارة، ويلوّح بعصا امام كاميرات التلفزيون ويسأل: اين هو شارون؟ كان كل العالم العربي والإسلامي يؤيده ويدعمه. ولما لم تبق هناك دماء حارة، وابتلعت الحجارة اصوات كل الاطفال وجفت عيون الامهات ولم تعد فلسطين، وعاثت اسرائيل في الارض اللبنانية خرابا ـ عدنا نراه الآن ـ قال له من تبقى من اللبنانيين: كفى...وبقية القصة معروفة.

مع ما يجري في لبنان الآن من تدمير وتخريب على رؤوس ابنائه، تعود الى الذاكرة مرارة ذلك العام الاسود، انما مع وعد من الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله بـ«الحرب المفتوحة».

السؤال هو: بمن ستكون هذه الحرب، ولأجل من، ومن فوّض الحزب اتخاذ مثل هذا القرار؟ لقد جاء قراره بالحرب المفتوحة بعد ان جمعت المصيبة التي حلت بلبنان اللبنانيين فقرروا الوقوف معا امام هذا الحقد الاسرائيلي على كل لبنان الذي لا يمكن ان يوصف، وتوقعوا من امين عام الحزب موقفا آخر، فإذا به يعلن حربا مفتوحة. قال السيد حسن نصر الله ان الحزب قام بعملية ضد هدف عسكري؛ بمعنى ان الرد الاسرائيلي كان يجب ان يكون على هدف عسكري فقط! هل كان فعلا يقصد ذلك أم انه كان يعرف ان الحزب طرف في لعبة اقليمية كبيرة ارتضت او توافقت على التضحية بلبنان شعبا، وأرضا، ومستقبلا ووحدة خدمة لأهدافها.

كان على اللبنانيين الذين جلسوا على طاولة الحوار ووثقوا، ان يعرفوا أن لـ«حزب الله» شخصيتين، فهو مدعوم من دولتين مختلفتين. ايران الراديكالية بطرحها الاسلامي، وسوريا العلمانية الاشتراكية. الحزب استراتيجيا كان متحالفا مع ايران، وتكتيكيا مع سوريا التي كانت تسيطر على لبنان، وبعد الانسحاب الاسرائيلي من لبنان عام 2000، وافقت اسرائيل على السيطرة السورية على لبنان، اذ رأت فيها عامل استقرار على حدودها، وبعد الخروج السوري من لبنان عام 2005، لم تكن اسرائيل متحمسة له لهذا السبب بالذات، وبروز الحاجة السورية لدعم ايراني لاقتصادها كتعويض لها عن خسارتها لبنان، بدأ التسلل الايراني الواضح الى لبنان، وصار السفير الايراني في بيروت يجول على كل الاطراف شارحا حرص بلاده على استقرار وازدهار البلد. ثم جاءت عملية «حزب الله» الاخيرة، وكان واضحا ان اسرائيل سترد. من وجهة النظر السورية، لم يكن هناك اي اعتراض لأن هذا يعني ان اسرائيل ستتورط، وسوف تتطلع الى سوريا لتخفف عنها هذا العبء، ثم ان اسرائيل لا تريد نظاما اسلاميا في سوريا، وهكذا تحمي سوريا نظامها مع توفر الفرصة ثانية لها لإعادة السيطرة على لبنان بعد ان تكون اسرائيل قد دمرته على رأس ابنائه، التهديد الذي اطلقه الرئيس السوري بعد صدور القرار الدولي 1559.

ولوحظ انه لم تُسجل سوى غارة جوية على هدف سوري على الحدود مع لبنان، وأسرعت الدولتان اسرائيل وسوريا الى نفي وقوعه داخل الاراضي السورية، وأصر السوريون بالذات على تكرار تأكيدهم بأن الارض السورية لم تتعرض لضربة اسرائيلية. بدا واضحا ان السوريين على الرغم من كل تصريحات الوزراء المخّول لهم التصريح، يريدون تجنب اي وضع يؤدي الى مواجهة مع اسرائيل. ربما كانت اسرائيل تعتقد ان الوقت مناسب لذلك، خصوصا اذا كانت تريد منع «حزب الله» من إعادة تجميع قواته، لكن سوريا تبذل المستحيل لتجنب إعطاء اسرائيل حجة، يضاف الى هذا انها تسّهل خروج الأجانب من لبنان عبر أراضيها بغية إظهار تعاونها.

أما ايران فانها حصلت على حرب بعيدة مئات الاميال عن حدودها، وتركت الآخرين يخوضون معاركها لتدّعي انها العدو الحقيقي لاسرائيل في العالم الاسلامي، وليس من المستبعد ان تساوم الولايات المتحدة على بعض مصالحها في العراق، مقابل السيطرة على «حزب الله». لذلك فان غزوا اسرائيليا يفتح الباب امام احتمالات كثيرة من دون الكثير من المخاطر، فالضحية لبنان وكانت الوسيلة ايد لبنانية. سوريا تعرف جيدا كيف تبيع مواقف فاقعة من دون ان تتورط، اما ايران فانها تخوض معركة نفوذ إقليمي.كانت كل الحسابات مطروحة باستثناء موقف سعودي حاسم قلب الطاولة على كل المزايدات والمراهنات، ذلك ان المستقبل العربي على المحك، والطموح الفارسي لم يعد يخجل من الكشف عن نواياه، فهو باحتضانه الموقف السوري انما في الحقيقة قضم سوريا، تماما كما الحقد الاسرائيلي الاعمى على لبنان واللبنانيين.

ويلفتني البروفسور والي نصر الخبير في الشؤون الايرانية في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، الى الدوافع التي تقف وراء مغامرة «حزب الله» الاخيرة، ويقول انها ثلاثة. الأول: شعر الحزب بقلق عميق من احتمال ان تقضي اسرائيل على «حماس»، فهي ان فعلت ذلك ستلتفت اليه، وهو عندما رأى ان القوات الاسرائيلية بصدد تفكيك حكومة «حماس» قرر ان الوقت حان للقيام بضربة وقائية، خصوصا ان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري افقد الحزب الكثير من الهالة الوطنية التي كانت تحيط به، وأيضا بسبب دعمه لسوريا. ثانيا: عندما بدأت المشاكل في العراق توقع الكثيرون من المعجبين بالحزب بسبب مواقفه المعادية لإسرائيل، ان يدعم المتمردين هناك، لكن «حزب الله» منظمة شيعية وقلبه وعواطفه مع شيعة العراق. ثالثا، حسب الحزب انه بمواجهة اسرائيل وبالدفاع عن «حماس» بالذات سيحل هذه المشاكل، ويحّول التركيز عن قضية اغتيال الحريري، وعن المسألة الشيعية ـ السنية في العراق، الى اسرائيل.

ويضيف البروفسور نصر، ان حسابات «حزب الله» نسخة طبق الاصل عن السياسة الخارجية الايرانية؛ فالإيرانيون يعتقدون أمرين:

الاول: ان الاميركيين وعددا من الزعماء العرب يحبون القول ان ايران دولة منبوذة، وانها مشكلة المنطقة. ضمن هذا المفهوم ارادت ايران ان تظهر ان اسرائيل هي الدولة المنبوذة وان ايران و«حزب الله» قادران على مواجهة اسرائيل.

الثاني: في محاولاتهم مواجهة اميركا في ما يتعلق بالمسألة النووية، فإن الايرانيين يحاولون كسب شعبية في الشارع العربي، وهذا بدأه الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد عندما شن هجوما على الهولوكوست، وفي المواجهة الاخيرة بين اسرائيل و«حزب الله» يأمل الايرانيون في الحصول على التأثير نفسه اي كسب الشارع العربي.

لا يستبعد البروفسور والي من ان تنفجر هذه المغامرة في وجه «حزب الله»، ويرى ان ايران و«حزب الله» يراهنان على ان الشارع العربي يتفاعل بقلبه وعقله تجاه كل عمل يتعلق بإسرائيل اكثر من تفاعله مع قيادة زعمائه العرب، ثم عندما تبدأ القنوات التلفزيونية عرض جثث الاطفال والجسور المدمّرة فإن الشارع العربي سيقول: ان «حزب الله» كان على خطأ، انما خطأ اسرائيل أسوأ واكبر.

لكن ردة الفعل في لبنان ازاء استمرار العمليات الاسرائيلية ستكون مختلفة عن ردود الفعل في بقية العالم العربي، لأن اللبنانيين هم الذين يعانون تماما مثل العراقيين اليوم، ذلك ان بقية بعض العالم العربي سعيد بالمقاومين والثوار، لكن هذا لا يعني ان العراقيين سعداء. ويقول البروفسور نصر: لا بد من ان اللبنانيين يحّملون «حزب الله» المسؤولية، لكن الفلسطينيين في الاردن والعرب في مصر ودول اخرى قد يعتبرون «حزب الله» البطل الذي تجرأ على اطلاق صواريخه على البارجة الاسرائيلية وعلى حيفا.

لقد قسّم السيد حسن نصر الله اللبنانيين بسبب تلك المغامرة، ولأن «حزب الله» لا يلعب لعبة سياسية، اي انه ليس خائفا من الهزيمة في الانتخابات النيابية، فانه اذا لم ينتصر بعد هذه المواجهة يكون السيد حسن نصر الله قد أقدم على انتحار سياسي، وربما يبقى أمينا عاما للحزب تهتف باسمه الجماهير، ألم يبق جمال عبد الناصر زعيما أوحد بعد هزيمة 1967؟

ويرى البروفسور نصر ان «حزب الله» يعتقد بان لإسرائيل مصالح في الجنوب وانها ستعود اليه، وكان يأمل ان تنجح «حماس» والفلسطينيون في مشاغلة اسرائيل باستمرار، لذلك من المستبعد ان ينسحب الحزب من الجنوب، لأنه لا يثق بالجيش اللبناني ما لم تكن فرق هذا الجيش مكونة من مقاتلي «حزب الله» بثياب الجندية.

لكن هل هناك احتمال لوقف اطلاق النار بشروط اخرى؟ هناك اعتقاد بأن دولتين قادرتان على تحقيق ذلك، اميركا وايران اذا ما نالت الاخيرة ما تصبو اليه من الولايات المتحدة، وهو الحديث معها والانفتاح عليها.

ان ايران تنظر الى لبنان فترى ان هناك اسرائيل التي تؤثر عليها اميركا، وترى «حزب الله» وسوريا التي تؤثر هي عليهما، اذن الرسالة التي تريد توجيهها من خلال مأساة لبنان الى الاميركيين كما يقول البروفسور نصر:«اننا اهم مما تعتقدون، وانه اذا اردتم الاستقرار في الشرق الادنى وفي العراق فعليكم التكلم معنا». وقد برز هذا في اقتراح وزير الخارجية الايراني منوشهر متقي يوم الاثنين الماضي في دمشق ـ وقف اطلاق النار وتبادل الاسرى ـ ، بأن ايران على استعداد للعب دورها انما لهذا الدور ثمن اكبر من لبنان.

التصرف الايراني، والحبور الذي بدا على وجه وزير الخارجية السوري وليد المعلم وهو يستقبل متقي، يؤكدان ثقتهما بأن الغارات الاسرائيلية لن تطول أراضيهما الآن، فاسرائيل تهدف الى اقامة حزام أمني، تريد العبور البري واحتلال اراض، لكنها لن تُقدم على هذه المجازفة إلا بعد تدمير كل مخازن صواريخ «حزب الله»، لهذا فان الغارات ستطول ووقف اطلاق النار ليس بقريب، والمواجهة بين اميركا وإيران انتقلت من العراق الى لبنان. هذا اذا بقي لبنان لأبنائه!