المبادرة المصرية ـ الأردنية صياغة من حطام «كامب ديفيد 2»

TT

عندما عكف المسؤولون في القاهرة وعمان على كتابة النص الاول للمبادرة الاردنية ـ المصرية، كان في ذهنهم سؤال واحد: كيف يمكن الحيلولة دون انفجار طنجرة الضغط؟

ونظرية «طنجرة الضغط» جاءت من واشنطن مع بداية عهد جورج بوش، الذي يصر على اتباع نهج جديد يختلف عن نهج سلفه بيل كلينتون، في التعامل مع التسوية السلمية في الشرق الاوسط وما تثيره من مشاكل وصراعات.

ولقد قيل صراحة في البيت الابيض، بعد اقل من شهر على تسلم الادارة الجديدة، ان واشنطن لن تتدخل، وهي لا ترى ان هناك «عملية سلمية» بل هناك «مساع لتحقيق السلام» وانها بالتالي تعتقد ان ما يمكن ان يؤدي فعلا الى نجاح التسوية هو اقتناع الاطراف بها.

اذاً: «دعوا هذه الاطراف تنضج داخل طنجرة الضغط» (!) اي اتركوا الامور تتفاعل الى الدرجة التي تستدعي قيام رغبة فعلية عند الاسرائيليين والفلسطينيين بالعودة الى مائدة المفاوضات.

هذه النظرية ليست جديدة في تكتيكات الديبلوماسية الاميركية، فقد سبق لمنسق المفاوضات الاميركي دنيس روس، ان قال في احدى مراحل الخلافات العاصفة في «كامب ديفيد 2»: «يتعين علينا ان نتركهم يرون آخر الفيلم»، بمعنى ترك الاسرائيليين والفلسطينيين يرون فعلا البدائل النارية التدميرية، التي لا مفر منها اذا لم تحصل الاتفاقات السلمية.

ويبدو ان قصة «طنجرة الضغط» رسخت في اذهان المصريين والاردنيين الذين يراقبون بقلق عميق تطورات المذبحة الاسرائيلية المفتوحة ضد الفلسطينيين، والتي بدأت ردا على انتفاضة الاقصى، التي انطلقت في ايلول (سبتمبر) من العام الماضي. ومع اتساع العدوان، بدا ان الطنجرة ليست في فلسطين المحتلة وحدها، بل هي تتسع لتشمل دولا وامكنة كثيرة في الشرق الاوسط.

وهكذا كان لا بد من قيام تحرك ما، فكرة ما، مبادرة ما، تكون بمثابة صنبور تنفيس الاحتقان الذي يحول دون حدوث الانفجار الكبير. ومن حطام الافكار التي كانت مدار بحث في «كامب ديفيد 2» الذي رعاه بيل كلينتون بين ايهود باراك وياسر عرفات، ومن حطام البنود التي كانت محور الاجتماع في شرم الشيخ، الذي رعته مادلين اولبرايت وهدف يومها الى وقف اعمال العنف ولجم العدوان ضد الفلسطينيين، من كل هذا الحطام تم وضع «المبادرة المصرية ـ الاردنية» التي تقع في اربعة بنود تتفرع الى 10 نقاط وتهدف الى امرين: وقف العنف والعودة الى مائدة التفاوض.

طبعا، ثمة ما يدعو الى الحيرة احيانا عندما يركز الحديث على القول: «العودة الى مائدة المفاوضات» ربما لأن العنف تفجر اصلا بسبب تعنت الاسرائيليين ونكوصهم الدائم، عن المفاوضات وعن الاتفاقات، التي كانوا قد وافقوا عليها في مفاوضات سابقة، فماذا عدا مما بدا ليصبح الطريق الآن الى مائدة المفاوضات آمنا وسالكا وهادئا؟

طبعا، لقد حصلت امور كثيرة في الاشهر السبعة الماضية جعلت المعنيين في فلسطين والشرق الاوسط واوروبا واميركا، يرون نموذجا او مسطرة من النتائج المدمرة التي ستترتب على سياسات اسرائيل، التي يرسمها الآن رجل مفتون بالحديد والنار والدم، هو ارييل شارون، الذي اتيح له هو ايضا ان يرى مسطرة من الهزيمة النكراء التي سيتعرض لها في نهاية الامر، والتي ستؤدي الى سقوطه وجعله يختم حياته السياسية التي قامت على العدوان والتوسع، بفشل ذريع بدت ملامحه تظهر اكثر فاكثر الآن، بعد مرور اقل من 60 يوما على مهلة الـ 100 يوم التي حددها لقمع الانتفاضة! وهكذا تمت صياغة المبادرة المذكورة بافكار مصرية واقلام اردنية وحبر فلسطيني بلون الدم، وعلى ورق اميركي، تبدو في النهاية بمثابة قوة منعشة وسط جدار من الاختناق.

لقد بدا الأمر في البداية بمثابة مزحة وفي أحسن الأحوال بمثابة محاولة لنفض قميص عثمان، حيال تصاعد المواجهة الدامية في فلسطين، ولكن الوقائع اليومية للعدوان وما يخلفه من تداعيات داخل الرأي العام الاسرائيلي، واتساع حدة القنوط والغضب في الشارع العربي، جعلت من المبادرة المذكورة اشبه ما يكون بطوق مطاطي القي فجأة وسط بركة تزدحم بعدد كبير من المشرفين على الغرق.

كيف؟

أولاً: مع اتساع وحشية العدوان والمضي في حملة الاغتيالات التي ينفذها شارون ضد القادة الفلسطينيين، ومع عودة الدبابات الى اراضي السلطة الفلسطينية، ومع تراكم عدد القتلى والجرحى الفلسطينيين صار الرأي العام في المنطقة العربية على درجة كبيرة من الغليان.

ولقد بدت الأرض متفجرة بالغضب والقنوط تحت الاتفاقات السلمية الناجزة، ففي مصر زادت درجة الضيق باتفاق كامب ديفيد، وفي عمان زادت درجة الغضب من اتفاق وادي عربة، فأي اتفاقات سلام يمكن ان تصمد وتحتفظ بحد ادنى من الجدوى والمصداقية، إذا كانت تملي على أصحابها الوقوف عاجزين عن دعم الفلسطينيين وهم يذبحون؟ وكيف للرأي العام المصري والأردني ان يقبل الاكتفاء بما تتيحه التزامات السلام: أي الادانات والتنديد والتحذير وكل وسائل العمل الانشائي واللفظي، في وقت تتعرض انتفاضة الاقصى للقمع؟

لذا كان لا بد من مبادرة ما، خصوصا بعدما اقترب المصريون والأردنيون من الاقتناع بان الادارة الاميركية، لن تتدخل بشكل حاسم لمعالجة الوضع المتفجر.

ثانياً: قبل ان تبدأ صياغة المبادرة، استطلعت القاهرة وعمان رأي واشنطن، حيث جرت العادة على ان المبادرات تشكل «حقا حصريا» للديبلوماسية الاميركية منذ عقدين من الزمن.

وجاء الرد مشجعا، لا بل ان وزير الخارجية كولن باول أظهر حماسة لقيام مثل هذه المبادرة عندما زار المنطقة.

ومن المؤكد ان التشجيع الاميركي، انطلق على أساس أمرين: أولهما ان هذه المبادرة ضرورية جدا في هذه المرحلة ريثما تقرر ادارة بوش الاستراتيجية التي ستطبقها في اطار التسوية في المنطقة، ويمكن طبعا لواشنطن ان تدخل بقوة متى شاءت على خط هذه المبادرة وهذا أمر لا مفر منه، خصوصا اذا تذكرنا ان انجاح المبادرة، يتطلب قبولا اسرائيليا بأمور سبق ان رفضتها وهنا يصبح التدخل الاميركي ضروريا.

السبب الثاني للقبول الاميركي انطلق على خلفية الرغبة في تشجيع «التحرك الذاتي» أو «الدفع الذاتي»، بمعنى ان اتفاقات السلام في الشرق الأوسط، ليست مشلولة وعاجزة ومتهالكة، بل انها تملك قدرة على التحرك الحيوي للبحث عن افق أوسع للتسوية، والأمر في النهاية يعيد المصداقية نسبيا الى مسيرة عملية السلام التي كانت وما تزال اميركية حصرية.. وبامتياز.

ثالثاً: لقد بدت المبادرة حاجة حيوية عربية، خصوصا بعدما انتهت القمة العربية في عمان كما بدأت دون ان تقدم أو تؤخر في مسار المذبحة الاسرائيلية ضد الانتفاضة، ذلك ان قيام مبادرة عربية من هذا النوع يخفف بالتالي من حرج الانظمة ويحول دون تصاعد الاتهامات التي يطلقها الشارع ضد هذه الانظمة.

وقد برزت أهمية المبادرة أكثر فأكثر في نظر عدة عواصم عربية، بعد العدوان الاسرائيلي على مركز الرادار السوري في لبنان، الذي خلق مخاوف واسعة وعميقة من انفجار على مستوى المنطقة كلها... ولعل هذا السبب هو الذي جعل وزير خارجية الأردن عبد الإله الخطيب يمضي في زيارته المقررة الى اسرائيل وإن كانت هذه الزيارة جاءت بعد أقل من 5 ساعات على قيام المقاتلات الاسرائيلية بتدمير الرادار السوري.

رابعاً: طبعا المبادرة تشكل حاجة فلسطينية حيوية، أولا لأنها توقف المذبحة في غزة والضفة الغربية وثانيا لانها تعيد اسرائيل الى مائدة المفاوضات، اي انها تعيد شارون الى الموقع الذي ذبح فيه سلفه ايهود باراك، وهذا سيشكل له هزيمة سياسية وسيكولوجية.

أما محتوى المبادرة في بنودها الاربعة فلا تخرج عن نطاق ما يريده ياسر عرفات الذي شارك في وضع نص المبادرة ودخل في كل تفاصيلها واحتمالاتها.

خامسا: لقد رفض شارون المبادرة، عندما عرضت عليه في 16 نيسان (ابريل) الجاري. وأصر على شعاره الذي يقول: «لن افاوض تحت النار»، لكن في مواجهة التداعيات العسكرية، (حيث فشل في وقف الانتفاضة وفي منع قيام «معادلة المورتر «بعد اجتياح غزة) والتداعيات السياسية (حيث تتسع دائرة الانتقادات الموجهة اليه داخل اسرائيل، لانه عجز عن توفير الأمن الذي وعد به، وزج الجيش اكثر في التصعيد الذي بدأ يرسم صورة كوسوفو جديدة لن يسكت عنها العالم) والتداعيات الديبلوماسية (حيث تتسع دائرة التنديد الدولي، خصوصا الأوروبي، بالعدوان الذي ينفذه ضد الفلسطينيين، وقد وصل الأمر الى حد ان وزير خارجية اسبانيا جوزيب بيكيه قال في بيروت قبل يومين: «ان اسبانيا والاتحاد الأوروبي يدينان التمادي في استخدام القوة ضد الانتفاضة ومحاصرة الاراضي الفلسطينية (...) وهو أمر غير مقبول اقتصاديا وانسانيا»).

في مواجهة كل هذه التداعيات التي تشي بفشل حتمي سيصل اليه، عاد شارون فوافق على المبادرة التي قيل قبل يومين، ان الحكومة الاسرائيلية درست صيغة رابعة معدلة منها، وان شمعون بيريس سيزور مصر اليوم الاحد لتقديم ردود تتعلق بها، وكذلك سيقوم بزيارة عمان، وهذا يعني ان المبادرة فرضت نفسها بقوة، حيث انها موضوع درس وتداول ومشاورات.

سادسا: تلاقي المبادرة تأييدا حماسيا من المجموعة الأوروبية ومن روسيا، أولا لأنها تنص على ان المفاوضات ستجري في حضور مندوبين من أوروبا وروسيا وهذا أمر يتناقض مع الاستفراد الاميركي الذي لم يترك لأوروبا غير دور تقديم المساعدات اي تمويل عمليات التسوية.

يوم الخميس الماضي كان عمرو موسى قد أعلن: «ان المبادرة مكتملة في رأينا، ولكننا سندرس نحن والأردن اي أفكار اسرائيلية حولها، شرط عدم المساس باساسيات السلام». في الوقت عينه كان شمعون بيريس يقول ان المبادرة يمكن ان تسمح ببدء محادثات معمقة (...) وان النسخة الرابعة المعدلة التي قدمت لنا تسمح بالدخول في محادثات في جوهر الأمور».

طبعا يحتاج المراقب الى الافراط في التفاؤل وحسن النية، كي يتخيل مجرد تخيل ان المبادرة المصرية ـ الأردنية ستنجح، حيث فشلت جهود اميركا، وان شارون سيستجيب ما عجز باراك عن استجابته.

ليس معقولا. وفي احسن الأحوال تملأ المبادرة فراغا متفجرا في انتظار «غودو الاميركي» الذي سيصل ولو طال الانتظار!