حادث طائرة التجسس الأميركية يقرب بين بكين وموسكو

TT

بعد ان سويت قضية طائرة التجسس الأميركية التي وقعت بقبضة الصين بين البلدين بالطريقة التي اعتمدها كل جانب نظراً لدبلوماسيته، عادت أجواء التشنج بين واشنطن وبكين من جديد بعد ان هدد الرئيس الأميركي جورج بوش الصين إذا ما تعرضت تايوان لهجوم صيني.

واعلن في بكين عن زيارة يقوم بها الرئيس الصيني جيانغ زيمين الى موسكو منتصف شهر يونيو (حزيران) القادم تأتي وفق مسؤول دبلوماسي روسي رفيع المستوى في اطار التقارب الروسي ـ الصيني الذي بدأ مع تسوية مشاكل الحدود بين البلدين في عهد الرئيس السابق بوريس يلتسين وتواصل مع عهد خلفه فلاديمير بوتين الذي توج بتشكيل تجمع اطلق عليه «مجموعة شنغهاي» ضم الى جانب روسيا والصين، طاجيكستان وكازاخستان وقرغيزستان واتخذ من مدينة بشيك عاصمة قرغيزستان مقرا له هدفه المعلن التصدي لمكافحة الارهاب وتهريب المخدرات والأسلحة، في حين أن هناك هدفاً يجمع بكين وموسكو ألا وهو محاربة ما يطلق عليه «التطرف الإسلامي».

حادث طائرة التجسس الأميركية الأخير الذي كاد ان يتسبب في أزمة سياسية حادة بين واشنطن وبكين، قرب الموقفين الصيني والروسي في تصديهما لمشاريع الولايات المتحدة العسكرية، وواشنطن وحدها التي خسرت الكثير من سمعتها دولياً ليتأكد لبكين كما موسكو، ان الرياح التي هبت عام 1991 لتعصف بالمعسكر الشيوعي ممثلاً بالاتحاد السوفيتي والدول الحليفة له، واصطدمت بجدار الصين التي بقيت محافظة على نظامها الشيوعي بل انها خرجت معافاة كقوة نووية، هي اكثر ما يغيظ واشنطن ودول الغرب الأخرى التي اضطرت الى قبول الحالة الصينية بعلاتها، وان النهج التجسسي الاميركي قد يدفع الصين وروسيا الى تشكيل محور ثنائي تنضم اليه دول اخرى مثل كوريا الشمالية، خاصة ان اعلان روسيا رسمياً عن رصد الف طائرة تجسس اميركية تقوم بالتحليق فوق السواحل الروسية في اقصى الشرق، لم يأت عبثاً، بجانب الاعلان عن نحو ستين طلعة اميركية لطائرات تابعة لحلف شمال الأطلسي خلال عام 2000 فقط.

فضيحة تجسسية ان زيارة الرئيس الصيني زيمين المرتقبة الى موسكو لم تكن بعيدة عن فضيحة طائرة التجسس الأميركية «اي بي 3» التي امضى طاقمها المؤلف من 24 شخصاً حوالي 12 يوماً تحت رحمة جنود ماو تسي تونغ وبلاد الصين التي توقفت عند حدودها ثورات البراكين الزاحفة نحو المعسكر الشيوعي لتبقى محافظة على نظامها السياسي وعلى كيانها مترامي الاطراف، حيث تشير المصادر الروسية الى احتمال توصل البلدين خلال زيارة الرئيس زيمين، الى معاهدة امدها عشر سنوات تحل محل المعاهدة السابقة الموقعة بين بكين وموسكو.

والتقارب الصيني الروسي بات مسألة ملحة للجانبين واكثر شمولية حتى مقارنة بالأوضاع التي كانت سائدة خلال فترة الحرب الباردة رغم التباين في طبيعة النظامين السياسيين في كل من الصين وروسيا ليأتي حادث طائرة التجسس الأميركية ويدفع بالعلاقات الى مستويات متقدمة في مجال التنسيق اقليماً ودولياً، والتصدي المشترك لمحاولات واشنطن الرامية الى استهداف امن البلدين بعد ان ادركا ان نهج الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة لم يتغير رغم انتهاء تلك الفترة، ولن تغير واشنطن سياستها السابقة ازاء الصين وروسيا. وقد اتضح ذلك جلياً من تأكيد كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس بوش الخاصة، على مواصلة النشاطات التجسسية باعتبار ان ذلك يعد سياسة حيوية لأمن الولايات المتحدة القومي، غير مكترثة بمطالب بكين وقف مهمات الاستطلاع والتجسس، اي ان حادث الطائرة الأخير لن يكون نهاية المطاف، وان واشنطن ستعمل بحذر هذه المرة كي لا تقع في مطب شبيه بذلك المطب الذي وقعت فيه في الأول من ابريل (نيسان) واضطرت بسببه الى التعبير عن الأسف الشديد للحادث الذي اودى بحياة احد الطيارين الصينيين وهو ما عدته بكين بمثابة اعتذار وجرت تسوية الموضوع ليعود طاقم طائرة التجسس الأميركية الى بلاده.

آثار سلبية وروسيا ذاتها التي اعلنت عن كشفها عمليات تجسس اميركية على حدودها في الشرق الأقصى المحاذية لليابان، قد تعيد هي الأخرى النظر بمسائل عديدة كانت على وشك الحسم أو تذليل الصعاب التي تعترض سبيل حلها بين موسكو وعدد من الدول وبالذات اليابان حيث جزر كوريل المتنازع عليها والتي تحتلها موسكو، وفق طوكيو، منذ هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، وترفض طوكيو حتى اللحظة توقيع معاهدة سلام مع موسكو ما لم تسترجع جزرها التي تخشى روسيا من استخدامها ـ نظراً لموقعها الاستراتيجي ـ من قبل الولايات المتحدة للتجسس على الاراضي الروسية بعد ان اخذت رياح توسيع حلف «ناتو» تمتد شرقاً لاحاطة روسيا بطوق من الدول الحليفة للولايات المتحدة الى جانب وجود قوات اميركية في عدد من الجزر اليابانية. وبقدر ما تمت تسوية حادث طائرة التجسس الأميركية بين بكين وواشنطن بالصيغة التي ارتضى بها الجانبان، القى الحادث بظلاله على مجمل العلاقات بين البلدين، وستنعكس آثاره سلباً على مشاكل عديدة في المنطقة، وستتعقد قضايا كانت قائمة في السابق مثل قضية تايوان والوضع في كوريا الجنوبية، بل ان مثل هذه القضايا ستتحول الى عقد عصية الحل، نظراً لسوء نيات الولايات المتحدة ازاء اطراف دولية مثل الصين وروسيا رغم ابداء البلدين استعدادهما للتنسيق غير مرة مع الولايات المتحدة في مجالات شتى والتعاون في اطار اتفاقات ابرمت مع واشنطن.

لقد بدد حادث طائرة التجسس الأميركية الأخير الآمال التي كان يعقدها البعض على امكانية ان يسود السلام والاستقرار العالم في ظل النظام العالمي الجديد، وتقطعت اوصال الثقة لتحل محلها الريبة والشكوك ازاء مواقف الولايات المتحدة وهو ما قد يدفع بالعالم الى فترة شبيهة بفترة الحرب الباردة لكنها اقل حدة من سابقتها نظراً للتغييرات التي طرأت على مجمل الأوضاع الدولية بعد انهيار المعسكر الشيوعي وانحسار دور دوله وانضمام عدد من تلك الدول الى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، مما غير ميزان القوى العالمية وجعله يميل لصالح كفة الولايات المتحدة.

* كاتب وصحافي عراقي مقيم في بريطانيا