البديل للتقسيم في فلسطين

TT

في ندوة عقدت اخيرا بالمغرب، دعا المفكر المغربي محمد عابد الجابري، الى قيام دولة اتحادية في ارض فلسطين التاريخية، على النمط الفيدرالي السويسري، واعتبر هذا الخيار هو صيغة الحل الممكنة الوحيدة، اذ «الوضع الآن لم يعد يقبل وجود دولتين متمايزتين تكون لكل منهما هوية قومية خاصة بها».

فانتفاضة الاقصى ومأزق التفاوض كشفا عن هذا «التداخل الهيكلي» الذي يجعل من الكيانين الفلسطيني والاسرائيلي دولتين متداخلتين. فالحل العقلاني اذن لهذا التداخل هو بلورته سياسيا في شكل اتحاد مرن يضم مجموعة من الكانتونات، «بعضها علماني وبعضها ديني، وبعضها بين بين. دولة تجد فيها جميع الطوائف مكانا خاصا بها في شبه استقلال في اطار من التبعية للدولة الفيدرالية».

قد ينظر القارئ لهذه التوصية كشطحة من شطحات الفلاسفة، بيد ان استكناه مقترح الجابري والتدقيق في ابعاده، يسمحان لمراقب الوضع الفلسطيني باعتباره خيارا جديا، قد يكون البديل الاوحد المتاح على الرغم من ظواهر الأمور.

ولسنا بحاجة للتذكير بتاريخ المفاوضات العربية ـ الاسرائيلية والصيغ الدولية التي قدمت لحل الصراع العربي ـ الصهيوني، وانما نكتفي بالاشارة الى ان الموقف العربي الرسمي قد تطور وفق الاحداث والمستجدات من فكرة رفض الاعتراف بالدولة الاسرائيلية الى مرجعية الشرعية الدولية التي تقتضي التنازل عن جزء من الكيان الفلسطيني مقابل استرجاع الاراضي المحتلة عام 1967، بما يعني عمليا الاقرار بحق اسرائيل في الوجود والبقاء.

صحيح ان ظروفا عديدة كانت تبرر عدم الاعتراف بقرار التقسيم الذي تبنته هيئة الامم المتحدة بضغط امريكي واوروبي. ومن هذه الظروف السمة الاستعمارية الاستيطانية للحضور اليهودي في فلسطين الذي تم عن طريق التهجير القسري والابادة الجماعية والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني.

ولذا فإن نكبة 1948 لم يكن لينظر اليها خارج هذا السياق، وبالتالي فإنه من الخلف نقد ردة الفعل العربية تجاه قيام دولة اسرائيل باعتبارها موقفا ينم عن قصور النظر وانعدام الحس التاريخي، كما يتردد كثيرا اليوم.

ومع ذلك فإن الجانب العربي ظل يتأرجح بين استناده للشرعية التاريخية والعقدية التي ينجر عنها خيار المقاومة والتحرير خيارا اوحد وميله لقبول «الشرعية الدولية» بقبول القرارات الاممية التي تحقق للعرب جزءا من مطالبهم مقابل الاعتراف بإسرائيل.

بيد ان حسم هذا التأرجح لم يتم الا بعد حرب 1967 التي غيرت جذريا المعادلة، وحدت من سقف التطلعات العربية، حتى ولو كان العرب بادروا بعد الهزيمة الى اعلان لاءاتهم المشهورة في قمة الخرطوم.

في هذا الافق، بلورت القيادة الفلسطينية مشروعها للحل المتمثل في انشاء دولة ديمقراطية علمانية تستوعب كل سكان فلسطين من عرب ويهود على انقاض الكيان الاستيطاني الصهيوني.

ولئن رفضت جل الاقطار العربية مبادرة السادات واتفاقات كامب ديفيد التي افضت اليها، الا ان اغلبها قبل قراري الامم المتحدة 242 و338 اللذين ينصان على الاعتراف العربي باسرائيل وحق تقرير مصير الشعب الفلسطيني وانسحاب الدولة الصهيونية من المناطق التي احتلتها عام 1967.

ولذا كان من الطبيعي والمنتظر ان تعتمد القمة العربية عام 1982 خيار الدولتين المستقلتين في فلسطين، وفق الشرعية الدولية التي اقرتها قرارات الهيئة الاممية.

ولقد تقدمت القيادة الفلسطينية خطوة ذات دلالة في الاتجاه نفسه بإعلان الدولة خلال اجتماع المجلس الوطني بالجزائر عام 1988، الذي يعني عمليا تغيير استراتيجية النضال من المقاومة المسلحة الى مبدأ التفاوض السلمي.

ومن هنا ندرك ان اتفاقات اوسلو، بقدر ما كانت اثرا من آثار المعادلة الاقليمية والدولية التي انجرت عن نهاية الحرب الباردة وزلزال الخليج، كانت في الوقت نفسه تطورا طبيعيا في الاستراتيجية العربية لادارة الصراع مع اسرائيل.

ولكن هذه الاتفاقات والمبادرات المتعددة التي تلتها لم تتمكن من رسم اطار مقبول للحل النهائي، واصطدمت بحقائق الواقع التي من ابرزها عدم استعداد القوى السياسية الاسرائيلية في مجموعها دفع ثمن التسوية المطلوبة، خصوصا الانسحاب الكامل من القدس الشرقية وتفكيك المستوطنات وقبول حق العودة. وقد اعتبرت هذه القوى ـ على تباينها في نمط الطرح والتعبير ـ ان هذا الثمن يؤدي في نهاية التحليل الى القضاء على الدولة الصهيونية.

ولسنا بحاجة الى تبيين ان انتفاضة الاقصى المندلعة حاليا هي تعبير واضح عن ازمة الحل النهائي في المناطق الفلسطينية، بعد اخفاق الجانبين برعاية امريكية في التوصل للحد الادنى من التوافق.

واذا كان الطرف الفلسطيني غير مستعد لأقل من صيغة الدولة المستقلة في الضفة والقطاع مع استرجاع القدس العربية، حتى ولو كان مرنا في امور تتعلق بالسيادة (مثل التسلح والتحكم في الممرات والموارد المائية)، فإن الجانب الاسرائيلي وان اصبح مجمعا على مبدأ الدولة الفلسطينية الا انه يريدها في اضيق حدود ممكنة، لعلها لا تتجاوز في العمق، الصلاحيات المتاحة حاليا للسلطة الوطنية.

وغني عن القول ان مرد هذه الازمة كامن في تصادم مشروعين استراتيجيين متناقضين على ارضية واحدة: مشروع استعماري استيطاني لا يتسنى له الاستمرار والتوسع من دون التحكم في الفضاء الذي يسيطر عليه راهنا، ويرى ان امنه الحيوي متوقف على التمدد خارج حدوده الاصلية بتكثيف الاستيطان واستيعاب الهجرات اليهودية والحيلولة دون عودة اللاجئين الفلسطينيين، ومشروع تحرري وطني ذو ابعاد قومية وحضارية كثيفة لا يرضى بأقل من الهامش الذي تبيحه الشرعية الدولية. من هذا المنظور نلمس ان قرار التقسيم وان كان هو الأفق الشرعي المعلن والهدف الاستراتيجي المطروح اقليميا ودوليا، الا انه يصطدم واقعيا بحقيقة التداخل الجغرافي والبشري الذي اشرنا اليها في بداية هذا المقال.

ولذا فإن الصيغة التي اقترحها الجابري تدعو للنقاش والنظر، والاخراج السياسي، بتحويلها من شطحات الفلاسفة الى امكانات الواقع.