تحذير ونصح وإنذار

TT

إسرائيل دولة إقليمية قوية. لا أحد يُنكر ذلك. لكنها ليست دولة عالمية كبرى. ليست بقوة جيوش أميركا، ولا تملك دورها ونفوذها.

عندما ذهبت جيوش أميركا إلى العراق، كان اعتقاد إدارة بوش أن السيطرة أسهل من الغزو والاحتلال. نعم، أسقطت أميركا نظام صدام، لكن سلمت العراق راضية أو غير راضية للقوى الطائفية التي ترعاها إيران وتموِّل ميليشياتها.

ما هو أشدّ خطراً من ذلك. لم تستطع جيوش أميركا السيطرة على الأرض، فانفتح العراق الحبيب أمام قوى العنف ومنظمات الإرهاب، فبات البلد باسم المقاومة مستوردا للمتطوعين والمتشددين. وساحةً لحرب دينية ومذهبية أشدّ هولاً من الحرب النظامية، بل أصبح مرشحاً لتصدير العنف والإرهاب إلى المنطقة العربية كلها. ومن جهة أصبح منطلقاً لتصور إيران بأنها باتت دولة إقليمية كبرى، قادرة على اختراق العرب، وتمزيق صفهم، وجعلهم قاعدة إسناد لمصالحها، بمجرد تملق عواطفهم الدينية والفلسطينية.

هل تريد أميركا وأوروبا تحويل لبنان إلى عراق آخر. إلى وطن للعنف والإرهاب في المنطقة؟!

ماذا لو فتحت حدود وأبواب لبنان لـ «المتطوعين» الراغبين في حرب دينية أو طائفية، باسم الجهاد ومقاومة الاحتلال؟

تعتقد أميركا وربما أوروبا أن إسناد مهمة احتلال لبنان أو «تطمين» جنوبه، إلى الجيش الإسرائيلي هو مقدمة لإعادة صياغة لبنان قوي جيشا وحكومة، وتوطئة لإرسال قوة دولية تكمل المهمة التي بات واضحا أن هذا الجيش مكلف بها، بل ذهب الاعتقاد الغربي إلى ان لبنان يصلح بعد تدميره بالمطرقة الهمجية الإسرائيلية ـ لا تسل عن العراق ـ منطلقا إلى «شرق أوسط» جديد، شرق أوسط ديمقراطي ناعم ومسالم ومستسلم.

من هنا، كان بيان القيادة السياسية السعودية أمس بمثابة تحذير ونصح وإنذار فعلا.

كان تحذيرا إلى كل مَن يخالجه وهَم بأن إسرائيل هي أداة الصياغة والتشكيل للمنطقة.

كان نصحا للذين يتصورون في الغرب مهمة القوة الدولية غير التصور السعودي والمصري. كان تأييد السعودية مبكرا جدا لإرسال قوة دولية ولبنانية إلى الجنوب، في مهمة لحفظ السلام وللفصل بين المتحاربين، قوة أمن وردع بل وقتال أيضا، لكنها أولا وأخيرا قوة محايدة ذات مهمة إنسانية، مهمة تجنيب اللبنانيين والعرب «المغامرات غير المحسوبة» لإشعال اضطرابات وحروب في المنطقة؟ بلا أي قدر من الشعور بالمسؤولية، وبلا أي حساب لردود الفعل.

على مدى أسبوعين من القصف الجوي الوحشي، وتدمير البنى الأساسية، وتهجير 700 ألف لبناني يلاحقهم القتل الجماعي المتعمد، لم تستطع القوة الإسرائيلية أن تحتل. قد تستطيع أخيرا أن تحتل، لكن لا تستطيع أن تسيطر على الأرض.

إذا طالت الحرب أكثر فتكلفتها عبء ثقيل على الجيش (الذي لا يقهر)، الجيش الذي لم يتعود خوض حرب طويلة، ولا يطيق «حرب استنزاف» أطول.

لا سيما انه مشتبك مع الفلسطينيين في الضفة وغزة، ويواجه لأول مرة في حروبه قصفا مستمرا لم يعهده الاسرائيليون من قبل.

بيان التحذير والنصح والانذار السعودي ليس مزايدة في سوق المزايدات الرائجة، وليس مبالغة وتهويلا، انه موقف عربي قومي، بقدر ما هو موقف انساني اسلامي، وهو أيضا واقعي يضع ايران واميركا واسرائيل أمام مسؤولياتها، لتبصير الاولى بأن النار ستلفها ولن تكون بعيدة عنها، ولتذكير الثانية والثالثة بمدى ردود الفعل السلبية لمبدأ استخدام القوة كأداة ديبلوماسية لفرض السياسات غير الواقعية والعملية.

أفهم ان البيان السعودي ليس مجرد براءة ذمة، وتهربا من المسؤولية، كان موفدا القيادة السعودية العربيين الوحيدين القادرين، خلال الأزمة، على مقابلة الرئيس بوش وجها لوجه، الديبلوماسيتان السعودية والمصرية تجوبان عواصم العالم، منذرتين سلفا وباكرا بالعواقب والتطورات غير السليمة وغير المضمونة لغطرسة القوة الاسرائيلية.

مبادرة السلام السعودية (الأرض في مقابل السلم) لا تعني ان السعودية مجرد دولة مساندة ومسالمة. السعودية بحكمة قيادتها ومصداقية سياستها، وموقعها الاقتصادي، تملك نفوذا وتأثيرا لدى اصدقائها واعدائها في العالم وفي المنطقة، يخطئ المزايدون والمهرجون اذا ظنوا السعودية، بعد بيان امس مجرد دولة دعم. انها ايضا دولة مسؤولة عن الأمن العربي، ومعنية بلبنان دولة مستقرة وحكومة قوية.

الدعم ليس كلاما في أيام الازمات والمحن، كما يظن اصحاب الاشواق الصارخة. الدعم ليس مزايدة اعلامية، ليس فقط تظاهرات في الشارع، ليس عنترية وضربا على الصدور في المساجد وعلى المنابر. تتجلى انسانية عبد الله بن عبد العزيز بقدر موازٍ لتحرك ديبلوماسيته: نصف مليار دولار لإنشاء صندوق عربي ودولي لإعمار لبنان. ربع مليار دولار لإعمار نواة لصندوق مماثل لإعمار الضفة وغزة. مليار دولار وديعة لتأكيد الثقة بالاقتصاد اللبناني، ولمنع تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية.

وبعد، ماذا أقول؟

يأبى الانسان العربي الكبير عبد الله بن عبد العزيز إلا ان يشارك شعبُهُ دولتَهَ في مبادرته الأخوية. يدعو ابن عبد العزيز شعبه للتبرع للبنان ولفلسطين، يعرف ونعرف ان السعوديين ما زالوا أسخى وأكرم العرب.

ماذا أقول أيضا؟

حسبي، في صوتي الضعيف، ان أردد مع الانسان العربي عبد الله بن عبد العزيز تحذير ونصح وإنذار شاعر نجد القديم للعرب وللعالم:

وقد أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ