وهم الشرق الأوسط الجديد

TT

زفت إلينا وزيرة الخارجية الأميركية في الأسبوع الماضي خبر ميلاد شرق أوسط جديد، يفترض أن يقام فوق الأشلاء والأنقاض التي تناثرت في لبنان وغزة وطيلة الأسابيع الماضية. ورغم أنها لم تتحدث عن مواصفات ذلك المولود الجديد، إلا أننا فهمنا أنه يعبر عن مرحلة ما بعد القضاء على حزب الله (بنزع سلاحه أو يفيد ذلك) وإسقاط حكومة حركة حماس.

أي أنها المرحلة التي تختفي فيها المقاومة من العالم العربي، وتطوي صفحة الممانعة فيه، سواء للاحتلال الإسرائيلي أو للهيمنة الأميركية.

وإذ يفترض ان تتبلور الفكرة في مؤتمر روما الذي عقد أمس، فان ذلك لا يمنعنا من التنبؤ بفشلها الذريع حتي قبل ان تولد ـ لماذا؟

أولا: لأن الطرف الذي أطلقها مجرح ومفتقد للنزاهة، ذلك أن الولايات المتحدة في المواجهة الراهنة ليست منحازة لإسرائيل فحسب، وإنما هي أيضا خصم وشريك في القتال ضد العرب، فالفتك الإسرائيلي بلبنان وقطاع غزة تم بموافقة أميركية وبغطاء من جانب واشنطن حرص على ان تعطي كل الفرص الممكنة لإسرائيل كي تحقق أهدافها ثم أن السلاح المستخدم في قتل العرب والوقود الذي اجتاحته إسرائيل لمواصلة جرائمها، والقنابل المسماة بالذكية التي قدمت لها لتدمير دفاعات حزب الله واختراق تحصيناته المقامة تحت الأرض، ذلك كله قدمته الولايات المتحدة. وهو ما يقطع بأن المشروع كله لا يستهدف سوي بسط التمكين لإسرائيل في العالم العربي.

ثانيا: لأن فكرة المشروع تتسم بالتسطيح الشديد، الذي لا يفسر إلا بأحد أسباب ثلاثة هي: الخبث أو الغباء أو الجهل، فهو لا يعالج من قريب أو بعيد جوهر المشكلة، وإنما يتعامل مع بعض نتائجها وتداعياتها إذ لا يتوقع له ان يتضمن أية إشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية شأنه في ذلك شأن كل المشروعات التي قدمتها الإدارة الأميركية التي كان الإسرائيليون طرفا في أعداد اغلبها، وأعوانهم تولوا «طبخ» ما تبقي حيث قاموا بالواجب في تأمين طلبات الدولة العبرية، من ثم فان غايته معروفة سلفا، ولن تخرج عن إطار التمكين لإسرائيل.

ثالثا: لأن الأميركيين يرتكبون خطأ فاحشا حين يتصورون ان المشكلة هي حزب الله وحماس، وحين يذهبون في التسطيح إلى حد اعتبار أنهما بمثابة نبت شاذ في العالم العربي، إذا ما تم القضاء عليه واقتلاعه فأن الأمور سوف تستقيم بعد ذلك. لصالح واشنطن وتل أبيب، وهم لا يدركون أن حزب الله وحماس يمثلان استجابة طبيعية لظرف تاريخي تمر به المنطقة. بمعني أنهما يعبران عن حقيقة راسخة في العالم العربي، ترفض الاحتلال وما يستصحبه من إذلال وقهر، وتصر على مقاومته بكل السبل، وما تصويت الأغلبية لصالح حركة حماس في غزة إلا تأكيد لذلك المعني. لذلك فأن القضاء على حزب الله أو حماس يغدو أمرا مستحيلا، وتوجيه أية ضربات موجعة أو حتى ساحقة لأي منهما، لن يحول دون استنبات عناصر وقوى جديدة، تحمل شعلة المقاومة وترفع رايتها.

رابعا: انه بعد الدمار والخراب والقتل والترويع الذي مارسه الإسرائيليون في ظل الحماية والتواطؤ الأميركي، فان المسافات تباعدت والفجوة اتسعت، ومشاعر البغض والكراهية في العالم العربي تضاعفت ولا يعقل بعد ذلك كله أن يقال للعرب ببساطة: تعالوا ننسي ما فات، ونقيم معا شرق أوسط جديدا! ان طرح فكرة من ذلك القبيل لا تعبر فقط عن جهل فاضح بحقيقة مشاعر الشارع العربي، لكنها تعبر أيضا عن احتقار وازدراء بتلك المشاعر، وهو ما لا يوفر أية فرصة أو أمل لنجاح الفكرة.

خامسا: ان الولايات المتحدة حين تطرح مشروعها في الوقت الراهن، أعني في ظل كل الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل وفي أجواء الغضب المتأجج الذي يجتاح العالم العربي والإسلامي، إنما تسبب حرجا بالغا لأصدقائها في المنطقة، ان تطلبهم أو تتوقع منهم ان يقفوا في صفها، وان يطأوا بأقدامهم أشلاء المئات من اللبنانيين والفلسطينيين ضحايا الفتك والعدوان، متحدين في ذلك براكين الغضب التي تملأ الشارع العربي، وهو جرح لا تتحمله الأنظمة العربية، ولذلك فإنها تجد نفسها أمام خيار صعب، ولا تملك إزاءه إلا أن تتبنى موقفا يتسم بالحذر الشديد من الانحياز إلى القاتل ضد القتيل، الذي هو في حقيقة الأمر ليس الشعبين الفلسطيني واللبناني فحسب، لأن صواريخ القصف والمهانة أصابت الأمة العربية بأسرها، بل والإسلامية أيضا. ومع تصاعد الغضب في الشارع العربي، فان من شأن ذلك الحذر أن يهبط بدرجة الحماس المشروع الأميركي إلى الحد الأدنى الأمر الذي قد لا يوفر له أية فرصة للنجاح.

ان غرور القوة يعمي البصر ويفقد العقل توازنه ورشده، وذلك ينطبق أكثر ما ينطبق على الولايات المتحدة على المستوى العالمي وعلى إسرائيل على الصعيد الاقليمي ـ هذا الغرور هو الذي دفع نفرا من المثقفين الأميركيين اليمينيين إلى توهم إمكانية إخضاع العالم عن طريق القوة وقد عبر هؤلاء عن رؤيتهم في اكثر من دراسة، لعل أبرزها تلك التي صدرت في عام 1996 تحت عنوان «الصدمة والرعب، كيف تحقق السيطرة السريعة» وانطلقت من إمكانية تحقق النصر الشامل عن طريق تكثيف التدمير والترويع بأعلى درجاتها لشل قدرة «العدو» على المقاومة، وقد تمت تجربة هذه «الوصفة» وكان الفشل الذريع مصيرها على النحو الذي يعرفه الجميع. عبر عن ذلك الدكتور ريتشارد دريتن أستاذ التاريخ بجامعة كيمبريدج الذي نشر أخيرا مقالا في صحيفة «الاندبندنت» قال فيه ان العراق فضح غرور الاستراتيجية الأميركية، من حيث انه اظهر ان أمة صغيرة لا تملك أية أسلحة متقدمة أو تكنولوجيا متقدمة، تستطيع ان تكبل دولة عظمي وتعطل قدراتها وتشل حركتها لقد اظهر احتلال أميركا للعراق ان التفوق في الفضاء لا يضمن للمحتل سيطرة كافية على الأرض، وثبت بما لا يدع مجالا للشك انه يستحيل على الناس ان يصبحوا أصدقاء لأميركا تحت تأثير الخوف أو القهر.

كما ثبت بالتجربة ان أميركا قادرة على أحداث دمار واسع وخراب لا حدود له، لكنها تظل عاجزة عن السيطرة أو التأثير الإنساني الخلاق. هذا الكلام ينطبق بذات الدرجة على إسرائيل التي مازالت حتي الان ضحية غرور القوة، الذي صور لها إنها يمكن ان تأخذ مكانها في المنطقة بما تدعيه من قوة وتفوق عسكري، لم يعد يخيف أحدا وصور لها ذلك الغرور أنها يمكن ان تنخرط ضمن النسيج العربي اعتمادا على علاقات واهية مع بعض الأنظمة العربية، ووسط أجواء الغضب والكراهية التي زرعتها بممارساتها في الوجدان العربي.

ان فكرة الشرق الأوسط الجديد تذكرنا بحكاية «أوروبا الجديدة» التي أطلقها المتحدثون باسم الإدارة الأميركية أثناء الإعداد لغزو العراق واحتلاله حين أرادوا عزل ألمانيا وفرنسا اللتين عارضتا الغزو العسكري وأقامة تجمع آخر من الدول الأوروبية الموالية (8 دول) فادعى وزير الدفاع الاميركي رامسفيلد ان الدولتين (ألمانيا وفرنسا) تمثلان أوروبا القديمة التي شاخت ولم يعد لها نفع يذكر، في حين ان الدول الأخرى هي الوجه الجديد لأوروبا. الملئ بالشباب والحيوية والأمل. وتبين لاحقا ان الأمر ليس سوى أكذوبة اتسمت بالمكايدة والنفاق لإدانة المخالفين وتشويه صورتهم وتلميع صورة التابعين والموالين ورفع شأنهم.

ان الولايات المتحدة لم تتعلم شيئا لا من درس العراق ولا من قصة أوروبا الجديدة والقديمة لأنها تمارس الأخطاء ذاتها. سواء في اعتمادها القوة وحدها المصحوبة بالإذلال والقهر، في مخاطبة الآخرين، أو في السعي لاصطناع احتشاد إلى جانبها يستبعد المخالفين رغم أهمية دورهم في المشهد الراهن. لكل هذه الأسباب فأننا لا نستطيع ان نعول بأي قدر ولا ان نثق بأي شكل في اية مساعي تبذلها واشنطن للتعامل مع الأزمة الراهنة، لأننا نعلم مسبقا ان تلك المساعي ـ وبينها مؤتمر روما الذي ينعقد اليوم ـ لن يكون سوى خطوة أخرى للتمكين لإسرائيل سياسيا، بعدما وفرت لها واشنطن كل فرص واستحقاقات التمكين عسكريا.

ان الحق العربي لن يسترده ولن يحميه سوى الإرادة العربية، لذلك فأنني أتمني ألا ننشغل بالسؤال ماذا سيفعلون في واشنطن أو روما لان السؤال الأهم الذي ينبغي ان نلح في الإجابة عليه هو أين الإرادة العربية التي لا نكاد نرى لها حضورا أو تأثيرا؟