قصف حيفا بالصواريخ حمل الدمار إلى لبنان

TT

في 14 آذار (مارس) رفع اللبنانيون الاعلام اللبنانية، وفي 14 تموز(يوليو)، اي بعد سنة واربعة اشهر، كانت الاعلام الوحيدة التي ترفعها السيارات الهاربة في لبنان هي الاعلام البيضاء. كم ان هذه المفارقة حارقة.

في شهر ايار (مايو) الماضي كنت في لبنان وكانت بيروت تبدو كالعروس، جميلة، مليئة بالحياة وتنتظر عريسها، وكان اللبنانيون يغرقونها بالقبل فرحاً بعودتها. كان لبنان يكاد ينطق ليثبت للعالم ان شعبه لا يموت، كان مزهوا بذاته، اعاد بناء نفسه بعد حرب مريرة تجاوزها، وظن ان العالم سعد لتجاوزه تلك الحرب. كانت اغلبية اللبنانيين تراهن على الشهرين السابع والثامن من العام الواعد حيث سيصل مليون ونصف المليون سائح ليشهدوا على تلك العودة وذلك الفرح.

في كتابه sدولة حزب الله ـ لبنان مجتمعاً اسلامياً» كتب وضاح شرارة في الصفحة 363 «فسياسة حزب الله على النحو الذي يرسو عليه اجماع الوليين الاقليميين ـ اي سوريا وايران ـ او ترسو عليه مساومتهما عامل فاعل في استمرار كبوة لبنان الاقتصادية، وفي عزلته الاقليمية وقصوره عن الاضطلاع بموجبات السيادة وصلاحياتها».

قبل الأمر الذي صدر بخطف الجنديين الاسرائيليين كان الاقتصاد اللبناني قد بدأ يطل برأسه، الاستثمارات تتدفق، اسعار الاراضي ترتفع والشارون كثر، ورائحة الازدهار المتوقع تنتشر في كل زاوية، كل تلك الوثبة تشكل تحّديا للفكر الذي يقوم عليه «حزب الله»، خصوصاً ان التجارة الداخلية بين ابناء الضاحية الجنوبية واصحاب المطاعم في الجبال ازدهرت، فمنتوجات الضاحية ارخص من منتوجات المناطق الاخرى، والكسب الذي يحققه اصحاب المطاعم ينعكس استمرارا للكسب المادي لابناء الضاحية، وعاد اللبنانيون من كل الفئات والطوائف الى ما كانوا عليه حتى اثناء الحرب قبل ان يدخل تفكير الثورة الاسلامية الايرانية على توجهاتهم، فاللبناني يحب الكسب والربح والعيش الرغد، هذا العامل ايضاً اقلق المفهوم الذي يقوم عليه مفهوم «حزب الله» وهو الانغلاق على الذات وتحكّم الحزب في الحياة المعيشية لطائفة بكاملها كي تبقى الحاجة الى الحزب ضرورية فيحقق هو عن طريق جماعته هدفه بقيام دولة «حزب الله» على كل لبنان ، بعد ان وحّد الطائفة بقوة السلاح ما بين عامي 1988 و1990 اذ قامت معارك ضارية ما بين حركة «امل» التي اسسها الامام موسى الصدر ومقاتلي «حزب الله»، حيث انه في شهر ايار 1988 سقط في الضاحية الجنوبية وحدها 500 قتيل بحسب تقارير قوى الامن ، واضطلع «حزب الله» بدور المهاجم.( كتاب وضاح شرارة).

اننا نبكي بصدق على الضحايا التي سقطت وتسقط بسبب الهمجية الاسرائيلية، ويجب على اللبنانيين كما فعلوا الوقوف صفاً واحداً لاستقبال المهجّرين وايوائهم ومساعدتهم، ولكن لا بد لاحقا من محاسبة الحزب والحكومات التي تعاقبت على لبنان منذ عام 2000 بعد الانسحاب الاسرائيلي، وسيدفع كثيرون ثمن الخيانة التي ارتكبت بحق لبنان.

لا اريد ان ارثي وطني او ان ارثي شعبي، فايماني بهم ساطع مثل الشمس، لكن لا يجب، والجريمة بحق لبنان تُرتكب، ان ندّعي ان هذه الجريمة غطت على المسؤولية الحقيقية. ان استعداد «حزب الله» لهذه الحرب بدأ منذ سنوات، فهو تلقى الاسلحة والتدريب من ايران وسوريا، وأعد التحصينات لتخزين الاسلحة في الجنوب والبقاع وجنوب بيروت. وفي 23 ايار(مايو) الماضي وفي مؤتمر حول «ثقافة المقاومة» القى الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله كلمة جاء فيها: «نستطيع ان نقصف شمال اسرائيل كله بآلاف الصواريخ. ان اسرائيل كلها تقع الآن ضمن مدى صواريخنا. كل مرافئها، وقواعدها العسكرية ومصانعها، تقع ضمن مرمى نيراننا. اكرر واقول ان مخزوننا من الاسلحة مميز في العدد والنوعية. هناك ايجابية اريد ان اشير اليها هنا وهي جغرافية لبنان وفلسطين. ان اغلب المناطق الحيوية الاسرائيلية موجودة في النصف الشمالي من فلسطين المحتلة، في حين ان الجنوب غير مسكون وقفر. ان اكثر من مليوني يهودي يعيشون في شمال فلسطين المحتلة الذي يضم ايضاً مراكز استراحة وتجمعات سياحية، ومصانع، ومناطق زراعية، ومطارات، وقواعد عسكرية رئيسية، كل هذا فيه ايجابية لنا، ووجودنا في جنوب لبنان بمتاخمة شمال فلسطين المحتلة يصب في مصلحتنا» (صحيفة جمهوري اسلامي الايرانية في 12 الجاري).

يلفتني محلل عسكري ـ سياسي بريطاني الى ان «حزب الله» نفى في البداية انه اطلق صاروخا على مدينة حيفا، كان يريد ان يقيس رد الفعل الاسرائيلي، ذلك ان خطف الجنديين الاسرائيليين كان الشرارة الاولى التي استدعت الهجمات الاسرائيلية، لكن لا خطف الجنديين ولا الهجمات الاولى شكلت نقطة الحسم الفاصلة، بل ان توالي قصف الصواريخ على حيفا ادى الى الخطوات الاسرائيلية العسكرية المتمادية والتدميرية التي اصابت المدن والقرى والبنى التحتية اللبنانية، ويضيف محدثي :«في البداية اعتقد حزب الله انه مستعد لتلقي تلك الضربات وتجاوزها لا بل استغلالها لمصلحته، ولا بد ان الحزب كان يعرف ان قصف ثالث اكبر المدن الاسرائيلية سيجبر اسرائيل على الرد بقسوة ما بعدها قسوة، هذا ما اراده تماماً، لأن استراتيجيته هدفت الى توريط اسرائيل قدر المستطاع في معارك جنوب نهر الليطاني اولاً، ومن ثم شمالاً في البقاع على ان يتخلى لاحقاً عن المواجهات التقليدية ويعود لعمل الميليشيات ويلحق بالاسرائيليين ضحايا كما يفعل السنّة في العراق بالاميركيين، اما الهدف الحقيقي للحزب فهو السلطة السياسية المطلقة في لبنان، لأن اللبنانيين لن يقفوا ضده وهو يواجه اسرائيل، كما يريد ان يتحّكم في اللعبة السياسية الفلسطينية». اما استراتيجية اسرائيل فهي ـ كما يقول محدثي ـ تدمير البنية التحتية العسكرية والمالية للحزب، كما انها ستغزو وتدمر وتنسحب. وقد فوجئ الحزب بأن اسرائيل مثله اعدت خطتها لمواجهته، ومع التحركات الديبلوماسية القائمة حول نشر قوات دولية بقدرات عسكرية قوية، يبقى هناك تساؤل عما سيحدث لاحقا حتى ولو تم ابعاد مقاتلي «حزب الله» الى ما وراء نهر الليطاني من جهة اسرائيل، لأن ايران ستزوده لاحقا بصواريخ بعيدة المدى تصيب العمق الاسرائيلي، من هنا يرى محدثي ان اسرائيل تستعد لهجوم بري مدمر، ويعتقد ان سوريا وايران تشعران بالقلق، لذلك انطلق المسؤولون السوريون بدعوة الولايات المتحدة للاتصال بهم قائلين انهم على استعداد للابلاغ عن خلايا «القاعدة» في لبنان ـ مما اثار قلق بعض اللبنانيين عمن يقف وراء ارسال هذه الخلايا الى لبنان ـ اما ايران فقد قال الناطق باسم وزارة الخارجية يوم الاحد الماضي، إن مسألة تخصيب اليورانيوم لا تزال على طاولة المفاوضات.

ان الايرانيين مثل السوريين بدأوا يقلقون فعلا، ولكن ليس هذا كل شيء، فالحزب يصر مسؤولوه على أن اللبنانيين جميعهم يقفون وراء حكمة قيادته، وهذا ليس بصحيح، كما ان قول وزير الخارجية اللبناني فوزي صلوخ، وهو يرفض فكرة نشر قوات دولية مسلحة تسليحا حقيقيا، بأن هذا الامر يعود الى اللبنانيين الذين يعتبرون الحزب مقاومة وليس ميليشا (اذاعة البي بي سي مساء الاثنين الماضي)، هذا القول لا يعبر عن رأي اللبنانيين الذين لم يسألهم الحزب رأيهم عندما قام بعملية الخطف والقصف مما اسفر عن تدمير لبنان وقتل الابرياء وتشريد الآلاف، والحزب لم يأخذ بعين الاعتبار ما سيحل باهالي الجنوب، فهؤلاء عندما سيعودون ويرون ما لحق بممتلكاتهم وديارهم ماذا ستكون ردة فعلهم عندما يكون الشتاء على الابواب؟

ليس معروفا كيف ستنتهي هذه الحرب القذرة، الا ان الفقر الذي سيقع على ابناء الجنوب اللبناني سيصيب ايران بصدمة قوية، لأنه لن يكون باستطاعتها توفير الاموال اللازمة اذ دمرت هذه الحرب المصارف التي يدير فيها «حزب الله» امواله، في وقت ستزداد عليها الضغوط للتخلي عن برنامجها النووي.

اما سوريا فأنها بدأت ترزح تحت ثقل هذه الحرب، فقد وصلها اكثر من 200 الف لاجئ لبناني، لينضموا الى نصف مليون لاجئ عراقي، و300 الف لاجئ فلسطيني، ومن دون شك تتخوف سوريا من ان يؤدي هذا الى زعزعة الاستقرار لديها. وقد نم تصريح وزير الاعلام السوري محسن بلال يوم الاحد الماضي في اسبانيا عن القلق من هذا النزوح وليس من شيء آخر، قال:«ماذا تنتظر الدول الكبرى للعمل على وقف سريع لاطلاق النار، هل تنتظر ان تدمر اسرائيل كل لبنان ويتهجر كل شعبه؟» ثم قال:«ان اسرائيل ليست اللاعب الوحيد في المنطقة، اكرر انه اذا ما قامت بغزو الاراضي اللبنانية واقتربت منا، فان سوريا لن تقف مكتوفة الايدي، سندخل الصراع».

محلل عسكري خبيث كتب معلقاً:« ان من الصعب على اسرائيل اقتلاع حزب الله من خنادقه، لكن من السهل عليها تدمير قدرات سلاحي الجو والارض السوريين». ربما كان بامكان اسرائيل فعل ذلك لولا ان واشنطن ما زالت تأمل بدق اسفين في العلاقة ما بين دمشق وطهران، ولتخوفها من ان تؤدي زعزعة الاستقرار في سوريا الى انتشار الفوضى اكثر في العراق وبالتالي الى تقسيمه.

المؤلم ان هذا قد يحدث، كما ان النظام في سوريا قد لا يستمر بعد انتهاء الحرب في لبنان، واذا طالت هذه الحرب وتعب «حزب الله» وتوقف تدفق الاموال الايرانية فان ابناء الجنوب سيكونون الضحية، وعندها على الحكومة اللبنانية ان تبدأ اعادة بناء لبنان من الجنوب، فابناء الجنوب اعزاء على قلب الوطن.

قد تثير هذه العبارات الكثيرين على اساس تشاؤمها وتفاؤلهم، لكن السؤال يبقى: كم من الوقت يستطيع «حزب الله» ان يصمد في ظل الغارات الجوية والهجوم البري الاسرائيلي، وماذا اذا انتهت ذخيرته وتوقف الدعم العسكري له بعدما تقّطعت كل طرق مواصلاته. ان حرب استنزاف ليست من مصلحته الاستراتيجية في وقت لا تنضب فيه ترسانة الاسلحة الاسرائيلية بسبب استمرار تدفق الدعم العسكري الاميركي.

قال الوزير محمد فنيش (من «حزب الله»):«لقد بدلنا الفصل السياحي بفصل البطولة»، كلام جميل انما يستدعي مبادرة شجاعة لانقاذ لبنان، كأن يعلن «حزب الله» وقفاً لاطلاق النار من جهة واحدة، ويحّمل العالم المسؤولية الاخلاقية بعد ذلك.