المواقف السعودية واستعادة زمام المبادرة

TT

أصدر الديوان الملكيُّ السعوديُّ بياناً لافتاً عن مبادرات المملكة العربية السعودية وجهودها لإعادة الاستقرار لمنطقة المشرق العربي، بدءاً بمواجهة التصعيد والتخريب والنار الإسرائيلية في غزة ولبنان.

توجّهت المملكة العربية السعودية بجهودها إلى وشنطن، ليس باعتبارها القطب الأوحد في العالم، والأكثر تأثيراً على إسرائيل وحسْب؛ بل ولأنها تتحمل المسؤولية الرئيسية عن التردّي الحاصل من طريق العدوان الإسرائيلي؛ وليس منذ نشوب الأزمات الأخيرة؛ بل ومنذ العام 2001. فقد أعطت وقتَها أرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل الضوءَ الأخضَر لتقويض ما تبقّى من عملية السلام. وما اكتفت الولايات المتحدة بترك إسرائيل تواجهُ الانتفاضة الثانية في فلسطين بالنار؛ بل وفرضت حِصاراً على إمكانيات الحِراك العربي والدولي؛ بحجتين: مكافحة الإرهاب، وتغيير الأنظمة العربية باتجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكانت النتيجةُ أنّ العربَ الذين أرادت لهم وشنطن الديمقراطية؛ كانوا الأشدَّ مُعاناةً في العالم لجهات انتهاك إنسانيتهم، وزعزعة استقرارهم، وتهديد وحدتهم الاجتماعية، والعبث بسيادتهم؛ دونما إفادةٍ من أي نوعٍ من حملة الولايات المتحدة من أجل الديمقراطية في أَوساطهم!

وقد حاول العربُ ـ وبقيادة المملكة العربية السعودية ـ أمام مخاطر تهديد استقراراهم بحجج الحرب على الإرهاب، والتغيير السياسي؛ أن يتّقوا العاصفة المندلعة بطرح مبادرة السلام العربية في مؤتمر القمة العربية ببيروت عام 2002 . وقد تحدّاهم شارون وقتَها بحصار عرفات ومنعه من المجيء إلى بيروت بالتهديد بعدم السماح له بالعودة. وحدثت بلبلةٌ يومَها لأنّ الرئيسين بشار الأسد وإميل لحود، أرادا مَنْع عرفات من توجيه رسالةٍ إلى المؤتمر، بداعي تقديم كلمة الرئيس السوري على كلمته، وبداعي العُطل الفني بعد ذلك! وأُضيف إلى الإزعاج الشاروني والسوري، الإزعاج الأميركي؛ حين حاول الملك عبد الله بن عبد العزيز (ولي العهد وقتَها) استيعاب الخلاف العربي من حول العراق؛ بالتحدُّث إلى نائب الرئيس العراقي. وما فهمنا أسبابَ انزعاج السوريين من عرفات؛ لكنْ كان واضحاً لماذا يريد شارون عزلَ عرفات، كما صار واضحاً بعد أربعة أشهُرٍ لماذا لا يريد الأميركيون استيعاباً عربياً للعراق؛ إذ إنهم في ذلك الوقت كانوا يُعدُّون العُدَّةَ لغزوه!

قصدْتُ من وراء هذا التفصيل الوصول إلى أنّ الأميركيين تصدّوا لمبادرة السلام العربية بالتفشيل، لأنهم كانوا متفقين مع شارون في حربه على السلطة الفلسطينية، وترك عملية السلام واتفاقية أوسلو تسقطان؛ ولأنهم أدخلوا العراقَ في نطاق حربهم على الإرهاب؛ ثم لأنهم أخيراً كانوا يخطّطون لصنع شرق أوسط جديد، من طريق الحروب الاستباقية، وقهر سائر العرب بحجة الحرب على الإرهاب، والتغيير الديمقراطي! وقد زار الملك عبد الله بن عبد العزيز الولايات المتحدة منذ ذلك الحين ثلاث مرات مُحاولاً دون جدوى فكَّ الحصار عن العرب، وإقناعَ إدارة بوش بأنّ العمليات الأميركية المندلعة في الشرق الأوسط ومن حوله، حَريةٌ أن تزيد المتطرفين قوةً، كما أنها ستؤدي إلى المزيد من الاضطراب في فلسطين والعراق وغير فلسطين والعراق.

لقد قوَّض العنف الشاروني المرحَّب به أميركياً (2002-2005) كلَّ مقومات العملية السلمية، وزاد من إعراض الناس عن «فتح» ودفعهم للوقوع في أحضان «حماس»، كما قوَّى الهجوم الأميركي من النفوذ الإيراني في العراق، وفي لبنان وسورية، من خلال التنسيق مع إيران في غزو العراق وهدْم الدولة فيه، ومن خلال المساومات مع النظام السوري على الاستقرار في لبنان وفي غير لبنان. وهكذا فقد أمكن لإيران في هجمتها الاستراتيجية، مستفيدةً من الحصار المفروض على العرب أميركياً، ومن الثوران الشعبي نتيجة ما حدث ويحدث في فلسطين والعراق، أن تفتح في الجنوب اللبناني جبهةً جديدةً تحت عَلَم المواجهة لأميركا وإسرائيل. وكانت ردة فعل إسرائيل والإدارة الأميركية (كما هو منتظر): معالجة العنف بالمزيد من العنف، والذي نال نيلاً شديداً من الإنسان والعمران في غزة كما في لبنان.

وما كان بوُسع المملكة العربية السعودية، بحكم موقعها ومسؤولياتها، أن تصبر أكثر مما صبرت، ولا أن تُبقي جهودَ دبلوماسيتها سريةً أو غير واضحة. ولذلك فقد جاء الموقف السعوديُ واضحاً منذ اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب بالجامعة العربية بالقاهرة، والذي تلاه إعلانٌ للأمين العامّ للجامعة بأنّ عملية السلام فشلت، وما اهتمَّ أحدٌ لمساعي العرب ومبادراتهم من أجل الحفاظ على الاستقرار، واستعادة الحقوق؛ فلا بُدَّ من الرجوع إلى قرارات الشرعية الدولية وفي مقدمتها القرار رقم 242 الذي يطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967.

بيان الديوان الملكي السعودي يمضي في الاتجاه نفسه؛ لكنه يرفعُ الأُفُق إلى حدود التصميم على «الحلّ الشامل» لمشكلات المنطقة، من خلال مباردة الملك عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر القمة العربية ببيروت عام 2002 والتي صارت مبادرةً عربيةً عامةً للسلام. والمبادرة الجديدة/القديمة ذات ثلاث خطوات: إخماد النار الإسرائيلية المشتعلة، والمصير إلى الإغاثة والإعمار في لبنان وفلسطين؛ وخلالَ ذلك تحقيق السلام العادل والدائم من طريق المبادلة بين الأرض والسلام.

إنّ بيان الديوان الملكي يذكر بوضوحٍ، أنّ استمرار العنف الإسرائيلي، المدعوم أميركياً، واستمرار العنف الأميركي؛ كلا الأمرين، يُفاقمُ من المشكلات، ومن البؤس، وبالتالي من التطرف؛ نتيجةً لإحساس الناس بامتهان الأرض والكرامة والحقوق الأساسية للإنسان. فما يجري في فلسطين ولبنان بفعل إسرائيل وتحالُفاتها كارثةٌ إنسانيةٌ، وفشلٌ سياسيٌّ ذريع. وقد تحرك المسؤولون السعوديون باتجاه وشنطن (باعتبار مسؤوليتها وتأثيرها)، وباتجاه أعضاء مجلس الأمن الآخَرين والأمين العام للاُمم المتحدة (لمسؤوليتهم في وقف إطلاق النار، وفي إنفاذ القرارات الدولية ذات الصلة). وحضر الأمير سعود الفيصل المؤتمر الأوروبيَّ لمساعدة لبنان بروما، بعد الإعلان عن المبادرة السعودية، وعن التقدمة السعودية الكبيرة للإغاثة والإعمار في لبنان وفلسطين.

ما كانت زيارةُ وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس للبنان مُرضيةً ولا حاسمة. فهي والرئيس بوش قبلها ما يزالان ينتظران «الظروف الملائمة» لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله. ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت يرى أنّ العمليات العسكرية بلبنان قد تستمرُّ أسبوعين آخرين. بينما يصرخ محمود أحمدي نجاد من طهران ببشائر الانتصار على الاستكبار. بيد أنّ العربَ يستعيدون زمام المبادرة، ولن تقتصر الآثار على فلسطين ولبنان؛ بل قد يكون للعراقيين نصيبٌ في ذلك. والمطلوبُ الآن كما يقول البيانُ السعودي: «الثباتُ في الموقف»؛ ولا شكَّ أنّ مؤتمراً استثنائياً للقمة العربية مُفيدٌ في الثَبات، كما في تطوير المبادرة باتجاه المشروع.

يفيد منطوقُ البيان السعودي إذن أنّ الأولوية الآن لوقف العنف الإسرائيلي/الأميركي ضدَّ غزة ولبنان. لكنّ المفهومَ من البيان أيضاً أمران آخران: إنذار الأميركيين أنّ العنف الحاصل يقوّض كل احتمالات التهدئة فضلاً عن السلام؛ ويفتح المنطقة على شتى المخاطر. والأمر الآخر أنه يقول للعرب إنهم مهدّدون جميعاً إن لم يبادروا إلى الوقوف مع مصالحهم وقضاياهم ليس بالانفجار الشامل للعنف وعدم الاستقرار؛ بل وبصيرورة قوى الجوار إلى ملك الفراغ، الذي خلّفه غياب المبادرة العربية، والمشروع العربي.

* كاتب لبناني