وقت للقوة الثالثة في المنطقة ؟!

TT

واحد من قوانين الطبيعة أنها لا تقبل «الفراغ»، وعندما يحدث ذلك لسبب أو لآخر فإن عواصف ورياح تتمدد لكي تملأ ما نضب أو يحدث التداعي الذي يهدم ويمزق ويفرق. ولا يختلف الأمر في السياسة عنها في الطبيعة، وعندما تعاني منطقة من الفراغ السياسي فإن قوى أخرى تتقدم لكي تملأه بأفكارها وقوتها وبرامجها وأجندتها ساعية إلى تغيير المحيط والبيئة بما فيها من دول وبشر. ولا ينطبق هذا القانون ـ في الطبيعة وفي السياسة ـ كما ينطبق على الأحوال في الشرق الأوسط، فمنذ بداية الألفية الثالثة والعجز عن التوصل إلى تسوية للصراع العربي ـ الإسرائيلي، والفشل في تحقيق بناء إقليمي فاعل استنادا إلى عملية السلام، حدث فراغ في السياسة الإقليمية لأسباب متنوعة. وكما هو متوقع كان لا بد وأن تسعى قوى مختلفة لملأ الفراغ جاء واحد منها من المنطقة رافعا راية الراديكالية الأصولية الإسلاموية الثورية تحاول أن ترث ما تبقى من التراث الثوري القومي الذي ساد المنطقة خلال عقود خلت، وتضيف عليه مسحة دينية عالمية. أما القوة الأخرى فقد جاءت من خارج المنطقة ممثلة في الولايات المتحدة التي حملت معها الغرب كله إلى المنطقة بالعنف تارة، وبالحديث عن الإصلاح تارة أخرى، ولكن النتيجة كانت في كل الأحوال حالة من الفوضى «الهدامة»!.

وبالتفصيل كانت نقطة بداية ما نشاهده الآن هو ذلك الفشل الذي جرى في مباحثات كامب دافيد وواشنطن خلال النصف الثاني من عام 2000، وبالتأكيد فإن الشرارة انطلقت مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر حينما تركت قوى الاعتدال والسلام والاستقرار الساحة لكي تملأها رياح وعواصف جماعات راديكالية بأشكال متنوعة ومعها القوة الأمريكية بعنفوانها وصلفها وغشمها ووحشيتها في أحوال كثيرة. وكانت النتيجة حالة من الجراح والحروب المفتوحة التي تعرف بدايتها، ولكن نهايتها تظل مفتوحة إلى زمن طويل. وخلال خمسة أعوام فقط فتحت جراح في أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال والسودان وظلت تواصل تقيحها وامتلائها بصديد القتل والترويع والتدمير دون أمل في طلوع صبح. وما يجرى في لبنان الآن لا يزيد عن تطبيق جديد للقانون العام الذي تفتح فيه جراح يظن أطرافها أن استخدام السلاح والعنف كاف لتحقيق أهداف سياسية وإستراتيجية فتكون النتيجة لا تزيد عن مستنقع يقع فيه الجميع لا ينتصر فيه طرف ولا يعرف للنهاية طريق طرف آخر. ولم ينج من ذلك حركة ثورية أو أصولية مثل القاعدة أو حزب الله أو دولة عظمى مثل الولايات المتحدة أو دولة مسلحة حتى الأسنان مثل إسرائيل.

ولكن الجراح المفتوحة لا تنزف فقط، ولا تأتي على حياة الشعوب والمدنيين فحسب، وإنما هي تؤدي إلى سخونة في المنطقة كلها فتدفع بسباق التسلح الذي وصل الآن إلى حافة أسلحة الدمار الشامل، وتدفع بالصراعات الطائفية إلى السطح، وتفتح أبوابا للمغامرين ومحترفي الحسابات الخاطئة.

كل هذا المسلسل بدأ مع فراغ القوة في المنطقة نتيجة انسحاب جزئي لقوى الاعتدال الممثلة في مصر والسعودية وانتقالها إلى الدفاع السياسي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

وعندما بدأت أحداث لبنان الأخيرة كان السيل قد بلغ الزبى، ولأول مرة منذ زمن وقفت الدولتان موقفا نقديا من أخطاء حسابات حزب الله، وأخطاء حسابات إسرائيل والولايات المتحدة، وعندما اجتمعت قيادات البلدين كان ذلك إيذانا بظهور قوة ثالثة على الساحة تحاول فرض سيطرة العقل على الجنون، ووضع الحكمة أمام أخطاء الحسابات. وعندما أعلنت السعودية بيانها الخاص بمعاونة الفلسطينيين ـ 250 مليون دولار ـ ومعاونة اللبنانيين ـ 500 مليون دولار ـ بالإضافة إلى حزمة من المعونات الاقتصادية والمالية المتنوعة كان نوعا من عناصر القوة قد وضع على الخريطة الإستراتيجية للشرق الأوسط. وعندما وضعت القاهرة والرياض بصمتهما على برنامج لحل الأزمة اللبنانية كمقدمة لحل مشكلات المنطقة انطلاقا من مؤتمر روما كانت صوتا قوة ثالثة قد أضيفت إلى الساحة بجانب القوى التي احترفت أخطاء الحسابات وفتح الجروح دون قدرة على إغلاقها.

ولمن لا يذكر فإن هذه القوة الثالثة كانت هي التي ضبطت الأحوال الإستراتيجية في الشرق الأوسط منذ عام 1970 حينما توافقتا على وضع نهاية للتوسع الإسرائيلي الذي فتحت بابه القوى العربية الراديكالية في عام 1967؛ فكانت حرب أكتوبر 1973 بشقيها العسكري والبترولي. وكانت الدولتان هما اللتان وضعتا بأساليب مختلفة نهاية لراديكالية الثورة الإيرانية وما حملته إلى المنطقة من أعاصير لا يزال بعضها معنا حتى اليوم بعد أن ذهبت الجذوة الأولى وراحت. وفي الرياض والقاهرة جرت عملية منع عراق صدام حسين من الاستيلاء على الكويت وهدم المنطقة على رؤوس أصحابها، ولم يغب أي منهما عن مسرح نهايات الحرب الباردة، وكانا معا عندما آزرا السلام عندما كان السلام ممكنا، كما كانا معا في نفس النقطة من الاعتراض عندما كان السلام غشا وخداعا!.

وفي الأزمنة الصعبة وأيام الاختبار القاسية فإن الحاجة لقوى الاعتدال والاستقرار تكون ضرورية، وعندما كانت الثورة الفرنسية وتوابعها تعصف بأوروبا خلال القرن التاسع عشر كانت قوى الاعتدال والاستقرار هي التي حافظت على القارة في النهاية من المغامرات والهدم. وفي الشرق الأوسط فإن التجربة مماثلة، وما تحتاجه المنطقة هو برنامج للحفاظ على الدولة، وعلى المنطقة، من قوى الثورة والتغيير العنيف من الداخل أو من الخارج، ومعه برنامج للإصلاح يدفع بالمنطقة بعيدا عن الدمار إلى الغني والازدهار.

ولدى مصر والسعودية الإمكانيات والمهارات، وبقى أن تستمر الإرادة في رفض ما هو غير مقبول من مغامرة وهدم، وفرض ما هو ممكن وقابل للانطلاق تكون مبادرة السلام العربية واحدة من بنودها وليست كلها. وإذا كان هناك من يظن أن بقدرته بناء شرق أوسط جديد قادما من واشنطن، فإن الشرق الأوسط الجديد لن يبنيه إلا أصحابه وقواه الرئيسية!.