شرق أوسط ولكن: جديد؟

TT

اتسمت السياسة الأميركية في القرن العشرين بدرجة عالية من اللبرالية والإنسانية عبرت عنها مبادئ ولسون ومبادرات روزفلت، واستنارة كندى واحتلت الولايات المتحدة دورا عالميا قياديا. القيادة محملة بالمشاركة والقدوة مما يحيطها بالرضا ويمنحها الشرعية.

ولكن منذ انتصار المعسكر الغربي في الحرب الباردة نما تيار تبنته جماعة القرن الأميركي الجديد. هؤلاء اقتبسوا صفحة من عنجهية عمرو بن كلثوم التغلبي وصاغوا مشروعا تطلعه:

لنا الدنيا وما أضحى عليها

ونبطش حين نبطش قادرينا

ملأنا البر حتى ضاق عنا

وظهر البحر نملؤه سفيـنا!

تزامنت هذه الرؤية مع عوامل أخرى أهمها تمدد الأصولية المسيحية الانجيلية، وصعود اليمين الإسرائيلي الذي يسر له التفوق انحسار واندحار التيار القومي العربي وحليفه الدولي السوفياتي.

لذلك نشأ تحالف ثلاثة غلاة هم: جماعة القرن الأميركي الجديد، والمسيحيون الانجيليون، واليمين الإسرائيلي. تحالف اليمين الأميركي، والاصولية الانجليلية ساهم في انتخاب الرئيس بوش الابن عام 2000 وهو بدوره أحاط نفسه بعدد من أعلام التحالف المتشدد. وفي عام 2001 تفجرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر فأعطت التحالف فرصة ذهبية لاختطاف القرار السياسي في أميركا، ولتبني سياسة دولية أحادية استباقية تخضع العالم للإرادة الأميركية تحت مظلة الحرب على «الإرهاب». وعرّفوا الإرهاب بصورة ذاتية للغاية تشمل العنف لتحقيق أغراض سياسية، والمقاومة الوطنية المشروعة، بل تضع في سلة واحدة كل من تحدثه نفسه بمعارضة السلطان الأميركي وبالتالي الإسرائيلي.

الهيمنة حيثما كانت لا تسمي نفسها هيمنة، بل تعبرعن مقاصدها بمشروعات تتبناها. وفي عام 2003 أعلنت الولايات المتحدة مبادرة الشرق الأوسط الكبير. المبادرة تضم جغرافياً الشرق الأوسط، شمال أفريقيا، وجنوب شرق آسيا. وتقوم على افتراض أن التناقض الأساسي الذي جلب للمنطقة عدم الاستقرار والتوتر الباعث «للإرهاب»، هو التناقض بين حكومات المنطقة وشعوبها بسبب غياب الديمقراطية، لا التناقض بين بلدان المنطقة وإسرائيل. والمبادرة تفترض أنه إذا توافر لسكان المنطقة التنمية، والديمقراطية، فإنهم حتما سوف يتجاوزون «العصبيات» الإسلامية والقومية ويطبعون علاقاتهم مع إسرائيل على نحو رؤية شيمون بيريس المعروفة. ويتوقع أن يقتدي سكان المنطقة بالأنموذج الأفعاني والعراقي في بناء «الديمقراطية».

شعوب المنطقة لم تمتثل لهذه الرؤية بل عبرت عن رفض معطياتها بوسائل عنيفة في حالة حركات المقاومة، وبوسائل سلمية في حالة الاقتراع الانتخابي.

انتماءات شعوب المنطقة الإسلامية، والقومية مدتها بطاقات روحية ومعنوية وتضامنية مكنتها من تجسيد تطلعات مناقضة لافتراضات مشروع الشرق الأوسط الكبير. إن فرض رؤى مستوردة على شعوب المنطقة يمر عبر إفراغها من تلك الطاقات، إنه إفراغ مستطاع إذا تباين موقف الجسم الإسلامي على أساس مذهبي، وتباين موقف الجسم الوطني على أساس طائفي واثني وثقافي.. هذه الحزمة من التناقضات من شأنها أن تنتج شرقا أوسطا مبلقنا ومهددا بالابتزاز النووي الإسرائيلي تحت مظلة السلطان الأميركي.

هذه هي معالم الشرق الأوسط الجديد التي يمكن لصناع القرار في اليمين الإسرائيلي أن يقبلوها. وهي عينها الصورة المقبولة لرعاة الغطرسة الأميركية.

إن فرض هذه الصورة على المنطقة بمقاييس القوة الخشنة ممكن. ولكن فرضها بمقاييس القوة الناعمة التي تتناول العقائد، والأفكار، والثقافات، وغيرها مستحيل. وبعد نزف الدم أنهارا، وقتل المدنيين أرتالا، وهدم المنشآت ركاما، سوف يتضح للكافة أن مشروع الشرق الاوسط الجديد الذي صاغته أطماع الهيمنة مرفوض، يلحق بالمشروعات المستوردة السابقة إلى سلة المهملات.

هل يدركون ذلك؟ ومتى؟ وقديما قال ونستون تشرشل: «إن الأميركان سوف يهتدون للفعل الصحيح بعد أن يجربوا كل الخيارات الأخرى»!

انتقدت التجربة القومية العربية الحديثة بمظهريها الناصرى والبعثي. قلت للرئيس جمال عبد الناصر في عام 1968: «نعم لوجود رابطة قومية عربية على ألا تتناقض مع الإسلام، وألا تتناقض مع حقوق القوميات الأخرى، وألا تهدر الحرية، وألا تقع في مزالق الحرب الباردة». وكانت رؤيته مخالفة. وقلت للزعيم ميشيل عفلق في عام 1988: إن حركة البعث لم تهتم بالخصوصيات غير العربية لا سيما في السودان، وإن رسالة البعث لم تخاطب الحقيقة الإسلامية بالصورة الكافية، وإن ممارسة البعث إذ أسقطت الحرية أطاحت الأهداف الأخرى! وافقني على كثير مما ذهبت إليه ووعد بالكتابة في الموضوع.

وجهرت بنقد التجارب الإسلامية المعاصرة في إيران، وباكستان، وأفغانستان، والسودان. وقدمت مرافعاتي مفصلة في محاضرات وكتب أهمها كتاب «العقوبات الشرعية وموقفها من النظام الاجتماعي الإسلامي» في 1984 وكتاب «نحو مرجعية إسلامية متجددة» في 2005.

إن نقد التجارب القومية العربية الحديثة، ونقد التجارب الإسلامية الحديثة ـ وهو واجب ـ لا يعنى طرد الإسلام ولا القومية من الحياة العامة كما يريد الذين يتطلعون لصياغة المنطقة بما تمليه مصالحهم.

النقد هو أفضل وسيلة للبناء عرفها الإنسان كما قال كانط. التجارب الإسلامية والقومية الحديثة محملة بأخطاء ومظالم وتوجب ثورة ثقافية تبعد الدين من التعصب، ومن الاستبداد، ومن الجمود، ومن نفي حقوق الآخرين، ومن إنكار حقائق العقل والتجربة.. ثورة ثقافية تحرر الانتماء القومي من العصبية والاستعلاء وتقبل التعايش السلمي مع التعددية الثقافية والقومية.

تجديد الشرق الأوسط ينبغي أن ينطلق من هذه المعاني متطلعا لتحقيق التنمية البشرية داخليا، والتعاون الملي والدولى خارجيا وهي مهام تتحدى شعوب المنطقة لتسعى في صياغتها وتحقيقها وهي خطة لامكان فيها لصورة تأتي وافدة على نمط «البريفاب».

السياسة الأميركية في المنطقة لا سيما بعد حرب لبنان اكتسبت رفضا غاضبا يغذى التيارات الراديكالية في المنطقة على نحو ما قال السفير البريطاني لإيطاليا «(2004) أن بوش هو أكفأ ضابط تجنيد للقاعدة».

حماس ولدت من أحشاء حركة إخوانية أكثر اعتدلا. وحزب الله نشأ من حركة أمل الأكثر اعتدالا. وكلاهما صار استعدادا أكبر لمواجهة تصعيد في البطش الإسرائيلي.

إن ما نشهد في غزة ولبنان اليوم مهما كانت نتائجه العسكرية المباشرة. فإن نتائجه السياسية سوف تؤدي إلى مزيد من الراديكالية في الدفاع عن هويات راسخة ومصالح لا يملك أحد أن يتخلى عنها. إن محاولة شرق أوسط مدجّن سوف تفرز شيئا مناقضا لمقاصد فارضيه.