تأملات السويس اللحظة الذهبية

TT

كانت السويس أول شركة مساهمة في الشرق. حلم بها مهندس فرنسي وأحب الخديوي الفكرة، وكانت بريطانيا يومها خاوية الخزانة، فاقنع دزرائيللي رئيس الوزراء الملكة فيكتوريا باقتراض المال لشراء الأسهم. كان دزرائيللي احد دهاة عصره. وكان يعرف ماذا يعني للإمبراطورية شق القناة. وكذلك كان يريد أن يحرم الفرنسيين احتكار المشروع الاستراتيجي المستقبلي الهائل.

من الصدف أن الفرنسيين نقلوا إلى مصر فكرتين ذهبيتين: زراعة القطن وكنز السويس الذي لا ينضب. ولكن سياسيا فرنسيا مفلسا وأحمق، يدعى غي مولييه، اعتقد انه إذا ضربت مصر سوف تسقط حركة تحرير الجزائر. وعندما أعلن عبد الناصر تأميم القناة، قال للبريطانيين وبن غوريون: هذه هي الفرصة الذهبية. الآن أو أبدا. وكان عبد الناصر قد أثار أعصاب الغرب وأهان أنطوني ايدن شخصيا خلال عشاء في القاهرة. ومن هنا وهناك تكونت الظروف لأول انتصار عربي بعد 1948 وأول هزيمة غربية إسرائيلية.

لم تستثمر مصر الناصرية النصر التاريخي على إمبراطوريتين سابقتين من اجل أن توطد النظام الناشئ والدولة الأولى في الأمم. بل راحت تعدو في كل الجهات. وتركت أوروبا وأميركا لأسباب سياسية واضحة ووجيهة، ولكنها أصبحت بلا شريك اقتصادي قادر. فالصين والاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، كانت في بدائيات اقتصادية وضائقة واضحة. وحولت مصر اقتصادها القديم القائم على المبادلات الكبرى مع الغرب، إلى اقتصاد مقايضة مع الشرقيين. قطن بدبابات. وقواعد عسكرية لقاء خبراء. ولكن من أين المال من اجل ما تبقى؟ ولماذا طوابير التقنيين بدل مشاريع التطوير؟ ولماذا تغيب الحريات مع غياب الخبز؟ لقد امتلأت مصر في تلك المرحلة بالنكات. وكالعادة جعل المصري مبكياته مضحكات. وكانت كل نكتة اختصارا لتذمر أو شكوى عميقة. ثم جاء الخامس من حزيران. وهزمت الغفلة العربية والسلاح السوفياتي. وأدرك عبد الناصر، متأخرا، أن مصر أضاعت الكثير من الوقت ومن الرجال ومن المال، وخصوصا من الهيبة، خلف احمد سعيد. وبعد عقد من انتصار السويس بلا سلاح حقيقي، هزمت مصر بسلاحها كله، وجلست تفكر في نفسها. لكن رأسها كان مثقلا.

كان في إمكان عبد الناصر يومها، أن يخاطب المصريين والعرب، بالقول: لقد هزمنا جميعا. كل مصري مهزوم هو كل عربي مهزوم. تعالوا نعيد النظر في كل شيء. تعالوا ندرس معا ماذا يجب أن نفعل. إنها لحظة حقيقة وليست لحظة نكسة أو هزيمة أو خسارة. تعالوا نرسم مشروع النهضة الكبرى. ونخطط ونبني ونبحث عن مصلحتنا القومية. تعالوا ننهي عصر الهباء والخطب، خصوصا أنها انتقلت من الساحرين إلى الثقلاء والمقلدين وهواة الحشو. لكن عبد الناصر لم يقبض على اللحظة الذهبية.

إلى اللقاء.