مسألة خاصة جدا

TT

هذا الصباح اطلقت صيحة ارشميدس الشهيرة حين قرأت ان الاتجاه الحديث في أماكن العمل بدلا من ان يضاعف انتاجية العاملين يتسبب في خفضها. باختصار اصبحت الشركات الكبرى والصحف وما شابهها تفضل المكاتب المفتوحة توفيرا للمساحة وخضوعا للعصرنة التي يعتمدها المعماريون. وعليه فان المكاتب الخاصة المغلقة اصبحت رفاهية لا يتمتع بها الا المديرون. اما بقية العاملين فيجلسون متجاورين على مكاتب يتوفر على كل منها جهاز كومبيوتر وتليفون ومساحة للاوراق والملفات.

اما سبب انخفاض الانتاجية فهو حرمان الموظف من عنصر اساسي في الصحة النفسية وهو الخصوصية. فانت على مكتبك تعمل ولكن اذا عطست اكثر من مرة تسببت في ازعاج زميلك الجالس على المكتب المجاور. اما اذا قررت زوجتك ان افضل وقت لتصفية الحسابات بينكما هو ان تخابرك هاتفيا اثناء ساعات العمل وتعبّر عن سخطها برصاصات كلامية لا يقطعها سوى نشيج مكتوم وآهات مسموعة فتجد نفسك إما قادرا على رد الصاع صاعين فتصبح فضيحتك بجلاجل، او تسمع وتسكت إيثارا للستر فتظن السيدة المصون أنها اصابت الهدف فتعتمد ذلك السلوك كأفضل وسيلة للتعامل معك. في كلتا الحالتين تتأثر حالتك المزاجية وتتأثر قدرتك على مواصلة العمل بكفاءة غير منقوصة.

حين قرأت هذه المعلومة الموثقة انجلت امامي أمور كنت اعتبرها سلوكا غير مبرر وغير مفهوم. فهمت إصراري الدائم في كافة الوظائف التي شغلت على ان تكون لي مساحة خاصة حتى لو لم تزد على مترين مربعين. وحتى بعد ان انقضت سنوات عملي المكتبي اصبحت اخصص الساعات الاولى من الصباح واهل البيت نيام للكتابة حين يكون الهدوء كاملا والخصوصية محفوظة والوقت والمجهود ملكا خاصا لا يتعدى عليه احد بطلب او احتياج. وفهمت لماذا افضل ان يبقى باب غرفتي الخاصة مغلقا مهما اشتد الحر في الصيف. افضل ان يبقى الباب مغلقا والنافذة مفتوحة ربما لأن الباب هو المدخل الذي يقضي على خصوصية المكان اذا دلف منه آخر سواء بإذن او بدونه.

وحتى في ابسط الامور المنزلية احرص على خصوصيتي حرصا لم يكن مفهوما حتى وصلت الى تلك المعلومة. فأنا افضل ان اعد الطعام وحدي ولا اتقبل نفسيا او عصبيا ان يشاركني آخر في مطبخي. وحين ادعو اصدقائي وتتبعني صديقة الى المطبخ لكي تعرض علي مساعدتها اسارع بقولي إنني افضل ان اعمل وحدي وانني ان احتجت الى مساعدة سوف اطلبها.

عدت بذاكرتي الى الوراء خمسة وعشرين عاما وتذكرت موقفا اصبح جزءا من تراثي الشخصي. كانت ابنتي في نحو الرابعة من عمرها ولاحظت انها اختفت خلف ستارة غرفة المعيشة وطال احتجابها فتحرك فضولي. وبدلا من ان اناديها او ان ازيح الستارة اقتحمت المخبأ بكل جسدي فوجدتها جالسة على المقعد الصغير الخاص بها مشغولة بحوار ما مع رفيق لعب وهمي. وحين اقتحمت مخبأها رفعت رأسها بدهشة وقالت لي: ماما اذهبي بعيدا..

ولما سألتها لماذا تريدني ان اذهب قالت: لأني مشغولة.

الخصوصية مساحة خلاء نحتمي بها من الغزو النفسي المتصل الذي تفرضه علينا الحياة العصرية في الاماكن العامة وفي اماكن العمل وحتى في بيوتنا. فانت لا يمكن ان ترتاد محلا تجاريا بدون ان تهاجم حواسك موسيقى راقصة تفرضها عليك ادارة المحل. ولا يمكنك ان تجلس وحدك في مكان عملك لكي تستلهم صفاء لأن اصوات الزملاء وتحركاتهم تقتحم خصوصية احساسك وفكرك. وفي البيت لا زوج لا يعتبر اطلاعه على خطابات زوجته حقا من حقوقه، ولا من زوجة لا تعتبر فحص جوال زوجها شطارة. حرماننا من الخصوصية هو حرمان من ابسط الحقوق الانسانية: ان تنفرد بنفسك بعض الاحيان لكي تهادنها وتناجيها وتنقيها من كل شائبة.