الفاجومي

TT

أحسنت قناة «العربية» وقبلها قناة «دريم»، بإفراد مساحة كبيرة لاستضافة الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم على شاشتيهما، فنجم نموذج إنساني ثري يستحق الاحتفاء والحضور.. فهو على المستوى الإبداعي شكل طرف المعادلة في ظاهرة إمام / نجم، التي وضعت الفن في حالة تماس مع السياسة، وقد ظل نجم حتى بعد أن تفرقت بذلك الثنائي السبل قادرا على التحليق وحيدا بإبداعه، فرياح الأيام مرت عليه عاتية بكل عواصفها وسجونها ومعتقلاتها، لكنها لم تستطع أن تقتلع نجم من عالمه الخاص ورؤاه وتفسيراته، التي قد تختلف معه في الكثير منها، لكنك لا تملك إلا أن تواصل الإنصات إليه مبتسما، وفي النفس مساحة كبيرة من الإعجاب.

المرة الوحيدة التي التقيت فيها بنجم كانت قبل سنوات في غرفته على السطوح بجبل المقطم، تلك الغرفة التي يطلق عليها دعابة «مقر مجلس قيادة السطوح».. وعلى الرغم من عشقي لعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، فإنني لم استطع في تلك الليلة أن أقاوم طلقات لسانه وهو يصف الموسيقار عبد الوهاب بأنه سبب تدهور الأغنية العربية، وأن عبد الحليم حافظ كان يمثل سلطة الدولة في ساحة الفن، وأن أم كلثوم أحد مراكز القوى، حتى شيخ إمام رفيق دربه وسجنه وإبداعه لم يسلم من لسانه.. فنجم يمثل ظاهرة احتجاج على كل أو جل ما يحيط به من رموز فنية وسياسية وثقافية وإعلامية، بما فيها ذاته شخصيا.

وأحمد فؤاد نجم المصري يتشابه إلى حد كبير مع الروائي المغربي الراحل محمد شكري في الكثير من الملامح الإبداعية، فليس ثمة مبدع عربي فيما أعرف مارس قسوة جلد الذات بالمدى الذي بلغه نجم في سيرته «الفاجومي»، أو كما صنع شكري في روايته «الخبز الحافي»، فكلاهما امتلك جرأة التأسيس لأدب الاعترافات، الذي ليس له جذور راسخة في ثقافتنا العربية، وكلاهما استفاد من هذا الأسلوب في توسيع شهرته.. وإن كانت رواية «الخبز الحافي» فتحت لشكري كنوز الشهرة التي تجاوزت فضاءنا العربي، فإن كتاب «الفاجومي» مكن القارئ العربي المعجب بنجم أصلا من التعرف على مكونات شخصيته.

ولنجم تجربة سينمائية وحيدة، كنت أتمنى لها التكرار، فوجهه الآتي من أودية التعب يمكن أن يمثل بقدر كبير من الصدق واقع الإنسان العربي بكل أحزانه الكبيرة وأفراحه الصغيرة.. بكل انكساراته المتكررة وكبريائه التقليدي.. وبعد رحيل رموز السينما المصرية، فإن هذه السينما لن تجد وجها يحمل شيئا من ملامح أمجادها الماضية أكثر من وجه نجم بكل دلالاته المعبرة، فضلا عن أن سيرة نجم ذاتها بكل جديتها وبوهيميتها، بكل بساطتها وتعقيداتها يمكن أن تشكل موضوعا لفيلم سينمائي يوثق لمرحلة مهمة من حياة المبدعين.. فهل بقي من صناع السينما المصرية من يعنيه طرح مثل هذه الأمور؟!

[email protected]