الحرب بالوكالة ومخاض العالم العربي

TT

بعد ثلاثة أسابيع من الحرب التي تشنّها إسرائيل بالوكالة عن إدارة بوش على بلدٍ عربيّ تمّيز بديمقراطيته وتعدديته وإعلامه الحرّ، توضّحت معالم هذه الحرب وأسبابها وأهدافها وبدأ القناع الذي غلّف الكثير من المواقف يسقط بنيران هذه الحرب الهمجية لتنبلج من بين أنقاض جرائمها الوحشية حقائق حيوية. لقد غدا واضحاً أن إسرائيل تخوض بالوكالة عن الولايات المتحدة الحرب «للدفاع عن أمن إسرائيل». ومن هنا أتى قرار الولايات المتحدة والذي هيمن على قرار الدول الثماني منذ اسبوعين وعلى قرار الاجتماع الأخير في روما بإعطاء فرصة أطول لإسرائيل «للقضاء على حزب الله» وإضعاف سورية ولبنان كي يستكمل «الشرق الأوسط الجديد» مخاضه ويصبح أميركياً بوكالة إسرائيلية ويصبح العرب مستعمرات تابعة وعبيداً يُساقون، فلا تضطر الإدارة للقلق بل تجلس مطمئنةً إلى القبضة الاستعمارية الحاقدة التي أحكمتها على شعوب المنطقة.

أول أدوات تسويغ هذه الحرب، هو الترويج إلى أنها حرب ضدّ «حزب الله» كحزب «إرهابي» أو «حزب شيعي» ومن هنا بدأت محاولات استمالة بعض السياسيين السنّة والدروز والمسيحيين في لبنان وغيره كي يسهل على المعتدين عزل لبنان وحرمانه من التضامن العربي. وسبق العدوان قصف إعلامي لنشر مقولة أن حزب الله «يشكل دولة ضمن دولة» والدعوة المكشوفة لنشر الجيش اللبناني المعروف بضعف إمكاناته للدفاع عن لبنان وتجريد حزب الله من السلاح لأنه القادر على ردع العدو ومعاقبته على العدوان.

ولكن حين تصدّت المقاومة في لبنان للدفاع عن أرض لبنان وكرامة العرب التفّ العرب شعبياً حول المقاومة، في حين تراجع الموقف الرسمي العربي إلى أيام حكومات الانتداب وتراجع الموقف الدولي إلى وحشية الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية عندما تُرِكت الشعوب تحت وطأة حروب القوى الغاشمة. ورغم كل التعتيم الإعلامي الذي فرضته قوى العدوان على جرائمها الوحشية فقد تمكّن العالم أن يرى استخدام القنابل العنقودية والفوسفورية المحرمة دولياً وتدمير البيوت وحرق الأطفال ودفنهم تحت أنقاض بيوتهم في تكرار لمجازر إسرائيل في لبنان عام 1982 وما قبلها وما بعدها. وحين فشلت كلّ أساليبها في النيل من أداء المقاومة أظهرت إسرائيل من جعبتها شريطاً لأيمن الظواهري في محاولة لوصم المقاومة بالإرهاب تماماً، كما أخرجت إدارة الرئيس بوش من جعبتها شريطاً لابن لادن في لحظة ما في الحملة الانتخابية فكان لذلك الشريط أبلغ الأثر في نجاح الرئيس بوش في الانتخابات الثانية. وفي غمرة جرائم الإرهاب الإسرائيلي على لبنان قصفت إسرائيل متعمدة إحدى مقرات الأمم المتحدة فقتلت بدمٍ بارد أربعة ضباط مراقبة من قوات حفظ السلام لأنهم أصبحوا شهوداً على وحشية الجرائم الإسرائيلية والشعب اللبناني الأعزل.

والفاجعة الكبرى هي أنّ مجلس الأمن الدولي، مثله مثل الجامعة العربية، والمؤتمر الإسلامي ومجموعة الثماني، وقع تحت الغطرسة الدولية ليسجل فشلاً ذريعاً في اتخاذ قرار بإدانة هذه الجريمة التي ارتكبها اولمرت متعمداً كغيرها من جرائم هذه الحرب مما وضع الأمم المتحدة، كمنظمة دولية، موضع عصبة الأمم التي دمرتها ألمانيا النازية بجرائمها غير المدانة. أما وزيرة الخارجية البريطانية فتكتفي بـ«انتقاد واشنطن» استخدام مطارات بلادها لنقل الأسلحة التي تقتل المدنيين العزّل وتدمر حياتهم المدنية وبيوتهم وجسورهم وسياراتهم ومدارسهم.. الخ تماماً، كما يفعل وزير خارجية أي دولة صغرى لا حول ولا قوة لها عندما تستخدم واشنطن مطارات بلادها دون إرادتها للعدوان على شعب شقيق آمن!

إن مخططات إسرائيل لتفتيت لبنان وتحويله إلى دولة طائفية تعود إلى عام 1954 حين تبادل بن غوريون وموشي شاريت رسائل لوضع خطة لتحويل لبنان إلى دولة مسيحية وضرب التعايش بين طوائفه، ونشرت مجلة »الطليعة» المصرية مجموعة من الوثائق تعود لعام 1954 بشأن تنفيذ مخطط صهيوني لتمزيق لبنان وإقامة دولة طائفية فيه، ودلالة هذه الوثائق التي نقلتها المجلة حرفياً عن نصوصها العبرية المنشورة بجريدة «دافار» الإسرائيلية الصادرة في 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1971، أنها تؤكد أنّ هذا المخطط كان بن غوريون يضغط لتنفيذه منذ عام 1954، وقد أُعيد نشر هذه الوثائق في جريدة «الأنوار» الأحد 7 مارس (آذار) 1976. العقبة الأساسية التي واجهتهم في تنفيذ خطتهم لتمزيق لبنان هي عدم وجود قوى داعمة من الداخل، آنذاك، تتبنى هذه الخطة حيثُ جاء في رسالة موشي شاريت إلى بن غوريون. بتاريخ 18/3/ 1954 «قبل كلّ شيء يتوجب عليّ أن أجدد افتراضاً جذرياً اتبعه دائماً، وهو أنه إذا كان هناك أحياناً سبب ومصلحة لعنصر خارجي في أن يتدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد لتأييد حركة سياسية تتآمر من داخله سعياً وراء هدف فإنه من قبيل الصدفة فقط أن تُبدي هذه الحركة أي نشاط ذاتي ينطوي على احتمال لتصعيدها أو إكسابها نجاحاً بواسطة تشجيع ودعم من الخارج. لا جدوى ولا فائدة من محاولة إثارة حركة من الخارج إذا لم يكن لهذه الحركة وجود في الداخل. من الممكن تعزيز روح حية إذا كانت تنبض من تلقاء نفسها، وليس من الممكن بعث الروح في جسد لا تبدو عليه دلائل الحياة». وبعد اطلاعه على الرسائل المتبادلة بين بن غوريون وموشي شاريت كتب الياهو ساسون إلى موشي شاريت في 25/3/1954 «من الصعب الاعتراض على افتراضك القائل إنه لا معنى ولا مصلحة في إثارة حركة من الخارج، إذا لم تكن هذه الحركة قائمة في الداخل» واختتم رسالته: «علينا أن نقوم بأيّ عمل من شأنه أن يخلخل استقرار الدول العربية ويحبط خطط وحدتها ويعرضها أمام العالم على أنها دول متنازعة تحاول الواحدة ابتلاع جارتها؟ ومع ذلك، فإنني أقرك تماماً فيما يتعلق بالضرر الذي قد يقع علينا، إذا اُفتضِحَ الأمر».

كان ذاك إذاً هدف وصم العرب والمسلمين بأنهم «إرهابيون» منذ أحداث سبتمبر (أيلول) 2001 ومحاولات إدارة بوش وإسرائيل الدائمة لوصم المقاومة بالإرهاب، كي يتم تحييد الأسرة الدولية عن حروب تمزيق العراق وفلسطين ولبنان، كخطوة أولى من أجل «مخاض الشرق الأوسط الجديد». ومن الواضح من أعداد العملاء الذين تمّ إلقاء القبض عليهم من قبل الدولة اللبنانية وحركة المقاومة أنّ إسرائيل اعتمدت في خطط التمزيق هذه على العملاء، المأجورين نقداً، والموعودين «مناصب ومواقع» لتنفيذ مخططاتها وبثّ روح الفتنة الطائفية وإثارة الشكوك والأحقاد بين الدول العربية، ضمن خطة مبرمجة للقضاء على الهوية العربية وإعطاء المنطقة الوجه الإسرائيلي ـ الأميركي الذي يبتغونه. ولكن الجماهير العربية سرعان ما فهمت أبعاد المؤامرة فالتفّ العرب، مسلمين ومسيحيين، حول نهج المقاومة الذي يهدف إلى استعادة الأرض والحريّة والكرامة والمستقبل المشرّف لهذه الأمة. وأصبح واضحاً أنّ تجريد المقاومة من سلاحها، وتدمير العراق وتمزيق شعبه، وتهديد سورية هي أهداف لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بهوية صهيونية غربية. وتكشّف اليوم النقاب عمّن يعملون على إشعال نار الفتن بين الدول العربية أنّهم، من حيثُ يدركون أو لا يدركون، يصبّون جهودهم هذه في خدمة المخطط الإسرائيلي ـ الأميركي المعادي للعرب. لقد ترفّع الشعب السوري منذُ اليوم الأول عن جراحٍ سبّبها البعض واحتضن إخوانه اللبنانيين في بيوته وقلوبه، مدركاً أنّ المخطط يستهدف الجميع كما أنّ قنابل الحقد الإسرائيلية لا تُفرّق بين طفل فلسطيني وآخر لبناني، ولا بين مسلم ومسيحي، ولا بين شيعي أو سني، فإن العرب عليهم أن يدركوا اليوم أنّ «كلّ ما يوحدهم هو صحيح وكلّ ما يفرقهم هو خطأ». المعركة طويلة، إذاً، معركة وجود أو لا وجود، وقد صدقت رايس ألا عودة إلى ما قبل اشتعال الحرب، وحتى إذا أرادت هي وإسرائيل أن تعود فإن كسر وهم أسطورة التفوق الإسرائيلي وكسر روح الإحباط التي عملت إسرائيل على بثها بين العرب، لن تسمح للعرب بأن يعودوا إلى قبول الذلّ والهوان واليأس الذي كان سائداً. ولا شكّ أن الشرق الأوسط اليوم في مخاض، ولكن الولادة ستكون لعالمٍ عربيّ يحكمه أبناؤه الخلّص الواعون لمصالحهم والفخورون بماضيهم وحاضرهم والمضحّون من أجل مستقبل مشرّف لأبنائهم يحقق فيه العرب التكامل والتعاون ليصبح الصوت العربي عالياً على الساحة الدولية أيضاً. إن مرحلة الضعف هذه ليست مرحلة ضعف عربي، وحسب، وإنما هي مرحلة ضعف دولية تعجز فيه دول كبرى عن اتخاذ موقفٍ نبيلٍ ومشرّف، وهي مرحلة استهانة إدارة الولايات المتحدة وإسرائيل بالقوانين والأخلاق والأعراف والاتفاقيات الدولية، ولا شكّ أنّ استبسال المقاومة سيساعد الشرفاء في كلّ أنحاء العالم لينهضوا لما فيه خير وكرامة الإنسان وتحقيق العدل والسلام والأمن.