العراق وخيارات الوجود الأمريكي

TT

تشير معظم التقارير الى تراجع اعداد الضحايا في صفوف الجنود الامريكيين بالعراق مقارنة بما كان عليه الحال العام الماضي، والى ان نسبة العنف الموجه ضد القوات الامريكية تنخفض مقابل تصاعد نسبة العنف الناتج عن صراعات طائفية، وبوضوح تشير تقارير الجيش الامريكي الى ان النسبة الاكبر من اعمال العنف هي اقتتال داخلي ذو خلفية طائفية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل ان ذلك يعد نجاحا للقوات الامريكية؟ وهل لهذا الواقع تأثير على اي خطط مستقبلية بخصوص تقليص حجم القوات الامريكية؟

قد يرى بعض القادة العسكريين الميدانيين ان خفض عدد الضحايا في صفوف الجيش الامريكي يمثل تحسنا بالنسبة لوضع القوات الامريكية في العراق، وانه يعبر بشكل او آخر عن التحول الذي جرى في السياسة الامريكية باتجاه اتخاذ موقف متوازن، وفي الحقيقة غير مبال، تجاه الصراع الطائفي في العراق. غير ان هذه النظرة تبدو قاصرة الى حد كبير، فوجود القوات الامريكية في العراق هو جزء من استراتيجية امريكية شاملة تضم الجوانب السياسية والاقتصادية والآيديولوجية، ولا يمكن ان يكون معيار عدد القتلى من الجنود الامريكيين هو المعيار الوحيد لقياس مدى نجاح هذه الاستراتيجية. ان انخفاض عدد القتلى قد لا يعبر عن اي نجاح اذا كان قد تم نتيجة انسحاب منظم من ساحة التأثير في الميدان والاكتفاء بموقف المتفرج، ولذلك فان معظم التقييمات الجارية في الولايات المتحدة حول السياسة الامريكية في العراق لا تؤشر نجاحا ما او اختراقا كبيرا حققته هذه السياسة على اساس ان معيار النجاح يرتبط بطبيعة الاهداف المعلنة لهذه السياسة واهمها بناء نظام ديمقراطي تعددي في العراق، والقضاء على الارهاب، وتعزيز النفوذ الامريكي في المنطقة.

وبالتالي لا يمكن للوجود العسكري الامريكي ان ينظر اليه بمعزل عن الاستراتيجية العامة، وبالتالي ان ينظر الى نجاحه او فشله بدون اعتبار لتلك الاستراتيجية. واذا كان تجنيب القوات الامريكية خسائر كبيرة هو هدف مهم للولايات المتحدة، فان ترك البلد في حالة فوضى تامة او باتجاه الانزلاق الى الحرب الاهلية لا يمكن ان يكون هدفا استراتيجيا، ومن هنا فان خيار اللامبالاة لا يمثل بالضرورة خيارا فعالاً الا اذا انطوى على رؤية استراتيجية بعيدة المدى حول ما يمكن ان تنتهي اليه هذه الفوضى. وقد يرى بعض السياسيين ان العنف الداخلي في العراق يمكن ان يخدم فكرة تحييد الموقف الامريكي تجاه اللاعبين المحليين، وان ذلك يمكن ان يزاوج مع سقوف محددة للعنف تفرضها القوات الامريكية عبر التدخل الانتقائي لمنع حصول الفوضى الشاملة. فربما تكون الفوضى المسيطر عليها هي افضل الخيارات المتاحة اذا ما انتهت الى تكريس الدور الامريكي كدور موازن وموجه للتفاعلات داخل البنية السياسية العراقية، وتكريس فكرة ان استقرار العراق لا يمكن ان يمر الا عبر الخيارات الامريكي، وفي اقل الاحوال لا يسود تصور واسع بان لا مصلحة امريكية واضحة في الانخراط بايقاف هذا العنف لان ذلك سيؤدي الى اعطاء الانطباع بان امريكا هي خصم للطرفين المتقاطعين وليست صديقة، وهو ما لا ينسجم مع الخيار السياسي الامريكي المقبول حاليا في لعب دور الموازن بين الفرقاء وما يتطلبه هذا الدور من مصداقية للسياسة الامريكية لدى هؤلاء الفرقاء.

ولكن في مقابل ما يستنتجه خبراء السياسة الامريكية والعسكريون الكبار من منافع لهذه السياسة، فانها تنطوي على مخاطر لا بد ان تكون موضع النقاش والادراك. فاولاً يبدو هذا الخيار سلبيا ولا يعبر عن فعل حقيقي بل هو اقرب الى اللا فعل، وهو ينطوي على خطر فقدان المبادرة اذا انتهى الاقتتال المحلي الى خلق لوردات حرب محليين وتعزيز الاستقطاب الطائفي وما يؤدي اليه من تعزيز نفوذ القوى الخارجية الداعمة للاطراف المتقاتلة وبالتالي اضعاف امكانية الولايات المتحدة على تمرير استراتيجيتها العامة. وامام هذا الواقع يمكن تفحص الخيارات المتاحة للدور العسكري الامريكي في العراق وهي في العموم ثلاث خيارات مطروحة في دائرة النقاش الحالي: اولاً: خيار الشروع بتخفيض التواجد العسكري الامريكي في العراق متزامنا مع استكمال القوات الامنية والعسكرية العراقية.

ثانياً: خيار الحفاظ على الوجود العسكري بمستواه العالي مع تفعيل دور القوة العسكرية الامريكية في التعامل مع اعمال العنف الجاري.

ثالثا: خيار تعزيز الوجود العسكري الامريكي والامساك التام بالمبادرة العسكرية الامريكية في الوضع الميداني العراقي.

رغم الخطط الانية التي رشحت عن لقاء القمة الامريكي العراقي المستوجبة ارسال مزيد من القوات الى بغداد الا ان صانعي السياسة الامريكية والقادة العسكريين الامريكيين يميلون الى الخيار الاول، لاسباب اهمها انه يتناغم مع مزاج الناخب الامريكي الذي لم يعد ميالا الى المزيد من الانغماس العسكري في الوضع العراقي وما يستتبعه من تضحيات بشرية ومادية، ولانه يجعل الحزب الجمهوري في وضع انتخابي افضل مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، ولانه سيدفع الفرقاء العراقيين الى فهم هذا الوضع بجدية افضل واستيعاب فكرة ان الامريكيين مغادرون، الا ان هذا الخيار ايضا يطرح اسئلة ويثير تحفظات. فاذا كانت الولايات المتحدة قد شرعت في بناء القوات الامنية العراقية قبل ثلاث سنوات وبدأت بتأسيس الجيش العراقي قبل عامين، فان هناك نقدا قويا لهذه العملية نتاجة الشعور بان هذه القوات لا تبدو فعالة على الارض بما يكفي، واذا ما تعززت فعالياتها فانها ترتكب انتهاكات كبيرة بحقوق الانسان وانها مخترقة ولا يمكن ضمان حيادية ومهنية افرادها.

ان واقع الاستقطاب الطائفي في العراق لم يسمح ابدا بخلق فضاء اجتماعي او سياسي محايد يمكن ان يأتي منه اشخاص محايدون ومهنيون يمثلون نواة للقوة العسكرية والامنية العراقية الجديدة، واذا كان الهدف الفعلي هو تاسيس مثل هذه القوة، فإنه هدف لا يتحقق في المدى القصير بل يتطلب منهجا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وآيديولوجيا في اطار خطة بعيدة المدى. على ان يصحبها على المدى الاني قبول افضل المتيسر والتنازل عن معايير تمثل ترفا لبلد ربما سيكون انقاذه فيما بعد متاخراً.