الجيل الثالث من الثوار العرب

TT

عندما التقيت بالسيد حسن نصر الله لأول وآخر مرة في شهر فبراير عام 2000 أعجبت به كثيرا؛ وكان سبب إعجابي هو أنه مثل لي نوعا جديدا من الثوار العرب الذين كنت قد سئمت منهم في صيغتهم القومية والناصرية. كانت المناسبة في ذلك الوقت قيام بعثة صحافية من مؤسسة الأهرام بزيارة عدد من دول الشرق الأوسط، وفي محطتنا اللبنانية كنا نريد لقاء الرجل، وحسب ما قيل لنا من قبل طلال سلمان ـ رئيس تحرير السفير ـ فإنه كان يريد لقاءنا أيضا. على أي الأحوال فقد تم نشر اللقاء فى حينه، ولكن ذكراه ظلت محفورة في ذهني لم تبرحها وتجددت تأملاتها مع اللقاءات الصحافية والتلفزيونية العديدة التي قام بها صاحبنا خلال الأسابيع الأخيرة خاصة بعد نشوب الأزمة اللبنانية الراهنة.

وبدون مبالغة فإن السيد حسن نصر الله يمثل نوعا جديدا من الثوار العرب، وحتى يتضح ما يقال فإن هناك نوعين من الساسة العرب، الأول منهما يقبل قواعد اللعبة المحلية والإقليمية والدولية وتوازنات القوى فيها، ومن ثم فإنه يرى نفسه شريكا في هذه القواعد، أما مهمته فهي تعظيم مصالحه ومصالح شعبه من خلالها. هذا القائد لا يحب استخدام السلاح، وفي العادة فإنه لا يؤمن كثيرا بالجماهير، كما أنه لا يحب المفاجآت والصدمات والأمور غير المتوقعة في العموم. النوع الثاني هم القادة الثوار، حقا أو زيفا، وهم على عكس الأولين يرفضون قواعد اللعبة القائمة وتوازناتها ويرون ضرورة قلبها رأسا على عقب، وهم يؤمنون كثيرا بدور العمل العسكري، ودور الجماهير في حركة التاريخ، ويعتقدون أن الثورة بمفاجآتها وصدماتها هي قاطرة التاريخ التي تأخذه إلى الأمام في نقلات نوعية.

وعلى مدى ما يقرب من قرن تقريبا عرف العالم العربي ثلاثة أجيال من الثوار، تكون الأول مع بدايات القرن العشرين وظل معنا ثائرا وقائدا طوال النصف الأول منه. وكان من نجوم الجيل سعد زغلول وعلال الفاسي والحبيب بورقيبة وشكري القوتلي وعبد العزيز آل سعود وآخرون، وهؤلاء قادوا ثورات شعبية تحرك فيها الناس للاستقلال وقيام الدولة، والتخلص من قادة قبلوا المهادنة والاستسلام لقواعد اللعبة بل ورأوا في الثورة نوعا من الخروج على حالة التطور الطبيعي التي تحتاجها الأمم للارتقاء. ومن يعرف تاريخ مصر جيدا ربما يجد المقابلة بين سعد زغلول ومصطفى النحاس على جانب، وعدلي يكن وإسماعيل صدقي على جانب آخر، شارحة للخط الفاصل بين القيادات. ولكن الخط الفاصل لم يكن أبدا سدا منيعا، ورغم الهتاف بأن الاحتلال على يد سعد الثائر أفضل من الاستقلال على يد عدلي التابع، فإن القول كان شهادة لمنطق غير الثائرين بأن الشعوب لم تتمتع بالنضج الكافي بعد. وفي كل الأحوال فقد كان بناء الدولة والمؤسسات كافيا لكي تكون العلاقة بين الثائر ورجل الدولة مشفوعة بتقدير الأدوار التاريخية لكل طرف.

الجيل الثاني جاء عنيفا وعلى صهوة جواد أو فوق مدفع بعد انتصاف القرن العشرين بانقلابات عسكرية وثورات مسلحة استعارت مفردات الثورات البلشفية والماوية والكوبية والفيتنامية في العالم واغترفت منها وأفرطت فيها بالحماسة والكلمات الرنانة والخطب الفاقعة. وربما كان جمال عبد الناصر في مصر أبرز أمثلتها وأكثرها شهرة، إلا أنه كان مجرد مقدمة لجيل شمل بعد ذلك عبد السلام عارف وحافظ الأسد وصدام حسين وعبد الله السلال وميشيل عفلق وياسر عرفات وبن بللا وهواري بومدين، وكان آخر العنقود هو معمر القذافي الذي خرج وارتقى بفكرة الثورة الانقلابية في بلد واحد إلى فكرة الثورة العالمية. وفي العموم إذا كان الجيل الأول من الثوار هو جيل الثورة الوطنية في كل قطر عربي، فقد كان الجيل الثاني هو جيل الثورة القومية التي حملت عبء توحيد العرب مع عبء تحرير فلسطين على أكتافها. وبشكل ما كانت ثورة هؤلاء ثورة على الثورة التي قام بها الجيل السابق، وتسببت من وجهة نظر الجيل الجديد في ضياع فلسطين وتجزئة الأمة العربية.

ولكن الجيل الثاني أخذ في التلاشي مع الربع الأخير للقرن العشرين بالوفاة الطبيعية أو بانقلابات أخرى لكي يفسح المجال لقيادات «واقعية» ترى أن الثورة من الأصل لم تكن اختيارا حكيما. ومع ذلك فإن الباب ظل مفتوحا للجيل الثالث من الثوار الذين بزغوا مع التسعينيات حاملين هنا راية الإسلام والأمة الإسلامية والعالم الإسلامي الممتد من المحيط الهادي حتى المحيط الاطلنطي. وفي مقدمة هؤلاء كان صاحبنا الشيخ حسن نصر الله، ولكن كان معه طابور طويل يبرز فيه خالد مشعل وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وعصام العريان ومحمود أحمدي نجاد؛ وهؤلاء تنوعت رؤاهم من الثورة على المستوى المحلي إلى الثورة على المستوى الإقليمي إلى الثورة على المستوى العالمي. وهؤلاء أيضا تنوعت وسائلهم من اعتماد الانتخابات والمظاهرات وحركة الجماهير إلى حرب التحرير الشعبية إلى حرب العصابات وحتى الإرهاب بأشكاله المتنوعة للوصول إلى الغايات السامية.

ولكن مهما اختلفت الطرق والوسائل فإن هؤلاء جمعهم أولا اعتبروا الإسلام المحرك الأساسي للثورة، ولا تزال ترن في أذني تلك الإجابة التي قال بها السيد حسن نصر الله عندما سألته عن سبب وضع «الله» اسما على حزبه، على أساس أن الأحزاب تدخل الانتخابات، ولا يجوز في النهاية احتمال عدم فوز حزب الله في المنافسة لأن الله هو المنتصر المنصور. ساعتها كانت الإجابة هي أن هدف أعضاء الحزب هو «الموت» ـ وصف الشهادة جاء بعد ذلك ـ ولا يكفي لبنان أو الأمة العربية سببا لهذه التضحية، وإنما الله وحده هو الذي يكفي الإنسان للفداء. ويجمع هؤلاء جميعا ثانيا ـ على عكس سابقيهم من الجيل الأول والثاني ـ على الإيمان بإيران وثورتها الإسلامية باعتبارها حجر الزاوية في الثورة الإسلامية المعاصرة؛ ورغم الصبغة الشيعية لإيران فإن أسامة بن لادن لم يمانع من استيطان الصف الثاني من زعماء القاعدة في إيران، ولا وجد خالد مشعل مشكلة في مصاحبة حسن نصر الله في طهران.

لقد اختلفت الأجيال الثلاثة من الثوار في أمور كثيرة رتبتها الأزمنة المختلفة بظروفها وشروطها، ولكن ما جمعهم جميعا كان إعلان التحدي للغرب في أشكاله المختلفة باعتباره استعمارا مباشرا، وباعتباره هيمنة غير مباشرة، وحتى باعتباره عولمة جامحة. وبشكل ما كانت الصبغة الغالبة للتحدي ـ على عكس ثوار بلدان أخرى في العالم ـ هو صدام أقدار دائمة تقوم على الوجود وليس حدود المصالح، وفي كل الأحوال كانت القضية ـ الوطنية والقومية والدينية ـ غالبة تماما على عملية بناء الدولة وعناصر قوتها الأساسية. ولعل ذلك كان كعب أخيل في كل الحركات الثورية العربية وزعمائها الثوار، ففي العموم قامت ثوراتهم على جموع هشة التعليم والخيال والقدرة الاقتصادية والعسكرية، ولم تكن هناك صدفة أن أصبح الكلام والشعار والجملة الثورية التي بدأت مع الصحف الوطنية وانتهت مع قناة الجزيرة القطرية وقناة المنار اللبنانية مرورا بإذاعة صوت العرب الناصرية هي ميادين الثورة وأهم تعبيراتها. وربما كان حسن نصر الله أقل هؤلاء جميعا كلاما، وأكثرهم هدوءا، ولكن الجوهر لا يختلف كثيرا في الأسباب والنتائج!!.