سامراء.. سدانة قبتها وعمرانها من حق أهلها

TT

كان تفجير قبة سامراء، أو قبة العسكريين: الإمام علي الهادي (ت254هـ) وولده الإمام الحسن العسكري (ت260هـ) في 22 شباط (فبراير) المنصرم، فاتحة تبادل مقاتل واعتداءات على المساجد والحسينيات. وكأن الفاعل عرف بعظم الألفة التي تحتضنها القبة منذ ألف عام ويزيد ـ شُيدت العام 944 ميلادية ـ بين السُنَّة والشيعة. وإذا كان تفجير القبة ثلمة في عاطفة جمعت بين الطائفتين فإن أمر إعادة عمرانها سيكون فادحاً، وربما منعت المزايدات والمكايدات إعمارها، وعودتها إلى فضاء تشوق إلى وهجها الذهبي بعد أن شغلته طوال تلك الفترة.

قبة سامراء، إن انتزعت سدانتها من بيئتها تبدلت أحوالها، والأمر لا يتعلق بدفينيها وحسب، بل بألفة أجيال وأجيال من السامرائيين معها، وهم لا يبدأون يومهم إلا بزيارتها، أو رؤيتها منتصبة إلى جانب الملوية وظلال التاريخ الوارفة على المدينة. سمعت من السامرائيين أن السامرائي عندما يخرج من بيته يقول: «رايح أزور جدي». ومعنى العبارة: أنه حفيد الإمام الهادي! وكل الذين يحيطون بالضريح، حسب منقولاتهم والتفاخر بأُصولهم، هم من صلب الإمام، سبع قبائل نسيت الانتساب إلى أُصولها القبلية، واتخذت لقب «السامرائي». حتى دعوا جدهم بقطب سامراء. وقالوها في مجالس ذكرهم الصوفي: «أبو جعفر علي يا قطب سامراء».

ومن شغف بالقبة ودفينها بالغ السامرائيون بمكانتها بينهم، حتى تداولوا القول: «لا معنى لمكة بلا الكعبة، ولا معنى للقدس بلا مسجد قبة الصخرة، ولا معنى لسامراء بلا قبتها»! وهم لا يدفنون ميتهم ولا يزفون عريسهم إلا بعد التطواف بهما حول ضريحها العسكري. وقسمهم المتعارف في ما بينهم: «وحق صاحب قبة الذهب»، و«وحق جدي علي الهادي». وفي غمرة الخلاف اليساري القومي كان قوميو سامراء يقولون: «قبة علي الهادي شمحلاها، والحزب الشيوعي ما تحداها». هذه مجرد خلفية للتعاطف والتلازم بين القبة وأهل سامراء.

ومنذ وجود الضريح، وتشييد قبته، وسدانته بيد السامرائيين من الشافعيين في أغلبهم والحنفيين، وقد سبق أن رفض المرجع الشيعي الأعلى محمد تقي الشيرازي (ت 1920) اقتراح البريطانيين بتحويل السدانة إلى سادن شيعي. وقال: «لا فرق عندي بين السُنَّي والشيعي، وأن الكليدار (السادن) الموجود رجل طيب، ولا أوافق على عزله» (الوردي، لمحات اجتماعية). ولم يتعصب المرجع الشيعي الأعلى محمد حسن الشيرازي (ت 1895) صاحب فتوى التنباك الشهيرة، لموقفه في محاولة التغيير في تركيبة سامراء المذهبية، وهو يرى الفتنة قد رفعت رأسها. ولا المرجع أبو الحسن الأصفهاني (ت 1946) أصر على أمر شراء أراض واستزراعها من قبل عشائر شيعية حول سامراء، كما كانت الخطة. بل استوعب الجميع واقع الحال، وكان مراجع الشيعة يزورون المرقد ويساكنونه برعاية أهل سامراء السُنَّة.

ذكر لي الأديب البحريني تقي البحارنة أنهم كانوا يفدون إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة، ويجدون سادن سامراء في استقبالهم بالبصرة، حيث يأتون عبر البحر، ويحتفي بهم حتى سامراء. كذلك هناك من التنسيق والمعايشة الخالية من التوتر الطائفي بين سدنة المرقد الكاظمي والمرقد العسكري بسامراء. وما تأسس من صلة بين مرجعية الكاظمية وسدانة المرقد العسكري بحكم العلاقة الإدارية بين بغداد وسامراء من جهة، وبحكم صلة النسب المباشرة بين أصحاب المراقد.

أطلقت قُبيل تفجير القبة العسكرية دعوات أن يتحول مرقدها إلى مسؤولية الوقف الشيعي، وهو بالأساس لا مسؤولية الشيعة ولا السُنَّة بقدر ما هو مسؤولية السامرائيين، بحكم الجيرة أولاً، وبحكم النسب ثانية. فالسامرائيون يدعون أنهم من السادة، كما أسلفنا، ومعلوم أن النسب لآل النبي وآل علي لا يحتكره مذهب دون مذهب آخر. هذا إذا علمنا أن كثيرين من أهل السُنَّة هم من النسب الحسني أو الحسيني.

لقد أقلقت تلك الدعوات أهل سامراء، وجعلتهم يستذكرون فتنة المدرسة الشيرازية والمدرسة العلمية، أواخر القرن التاسع عشر، التي تأسست بأمر من السلطان عبد الحميد الثاني (ت 1909).

ما يراه السامرائيون في إعادة أعمار مثل هذا الصرح المقدس والتاريخي، لا يجب أن يتم بفوضى التبرعات، وطريقة البناء العشوائي، إنما يتم عن طريق منظمات دولية، لها الريادة في التعامل مع الأثر النفيس، وليكن عبر اليونسكو مثلاً. وفي أعمار العتبات المقدسة الأخرى، بعد إيذائها إبان انتفاضة مارس (آذار) 1991، جرى تنسيق مع خبراء يميزون نوع الذهب وطريقة رصفه فوق القباب، ولهذا الغرض اُنتدب جماعة من الصابئة المندائيين، وهم أهل خبرة تاريخية في هذا الشأن، وقد سمى لي منهم الشيخ المندائي رافد بن الشيخ عبد الله نجم الصائغين: أنيس خماس، وعبد الله درباش. وليس هناك ما يمنع من اشتراك مثل هؤلاء الخبراء إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الإمامين أبو حنيفة والشافعي ومراجع من الشيعة اعتبروا الصابئة من أهل الكتاب، وحكمهم في المذهب الحنفي، وأهل سامراء يقلدونه، يسمح لهم بـ«دخول الحرم حتى الكعبة نفسها...» (ابن قيم الجوزية، أحكام أهل الذمة).

بدأت تتفجر فتنة أخرى حول إعادة أعمار القبة، قبل الكشف المؤكد عن نتائج التحقيق في حادث تفجيرها، ذلك أن جهات شيعية، خارج مشورة المرجعية بالنجف، أخذت تهدد بالزيارة المليونية المرتقبة، وبفتح باب التبرعات وتشكيل لجان للأعمار. وبالمقابل تجمع السامرائيون أمام أنقاض القبة، بينهم علماء دين وسدنة الحضرة، وأصدروا بياناً ناشدوا فيه المرجعيات الدينية، ورئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء لمنع الزيارة، التي ستترتب عليها أضعاف ما ترتب على تفجير القبة. ومعلوم أن من كوارث التلويح بالزيارات المليونية كانت كارثة جسر الأئمة: أكثر من ألف قتيل وغريق.. فتأمل.

وجاء في بيان السامرائيين: إنها «إثارة لأهالي سامراء، بفتنة طائفية في الوقت الذي لا يزال الصحن الشريف مغلقاً، ولا يسمح حتى لأهالي المدينة بدخوله والزيارة... يجب الوقوف في وجه مثل هذه الاستفزازات واتخاذ الإجراءات الكفيلة لمنعها». أقول: وهل تنقص العراق فتنة تضاف إلى الفتنة التي يعيشها؟ أقول: أليست العتبات المقدسة من حق المدن؟ العلوية من حق النجف، والحسينية من حق كربلاء، والرضوية من حق قم الإيرانية، مثلما ضريح رأس الحسين من حق القاهرة. أما المذاهب فلا تطلب رزقها من هيمنة المراقد، إنما لها الفقه: عبادات ومعاملات، وصيانة الدين على اختلاف طرقها، ودرء فتنة مثل هذه.

[email protected]