شعور متبادل، سيادتك

TT

في الأسفار العربية يطرح علي دائما سؤال متكرر: ما سر هذه المحبة لمصر؟ وأحيانا أرى أن السائل عنده أيضا الجواب، أو أكثر من جواب. وكل النظريات تقوم على صداقاتي في مصر. والبعض يجد لي أيضا ذكريات في مصر. والبعض يعثر على حاليات أيضا، مع أنني لم أسافر إلى القاهرة منذ أربعة أو خمسة أعوام. وكل رحلة أقوم بها إلى مصر في السنوات الأخيرة كانت إما من اجل زيارة احمد بهاء الدين يوم كان حيا، وإما لحضور اجتماعات لجنة ذكراه منذ غيابه.

وأنا من الذين يعتقدون أن على الكاتب العربي أن يمضي نصف عامه على الأقل في مصر. فالقاهرة للصحفي مثل النيل للترعة وللنخيل. لا تزال الحركة السياسية فيها حيوية ومتعددة. ولا تزال الحركة الأدبية والثقافية أوسع من سواها برغم التراجع. وكانت بيروت قد استرجعت الكثير من ألقها، لكنها لم تصبح يوما القاهرة ولن تتخطى حجمها البشري مهما بلغت هذا إذا قامت من جديد، وإذا قررت أن تبقى مدينة ثقافة وأدب وتيارات فكرية.

اكتشفت في أيام العدوان والخراب أن حبي للقاهرة لا شيء أمام حب المصريين للبنان. نجيب محفوظ يسأل عن أخباره أول شيء في الصباح. وأحمد عبد المعطي حجازي يعدد بلا تعب أسماء اللبنانيين الذين ساهموا في مشروع النهضة. وسيل من الأقلام العريقة، أو الشابة، يكشف عن مشاعره حيال لبنان وما يمثل في حياة العرب. هناك لهفة واضحة على بيروت. وهناك خوف حقيقي من فقدانها تحت الركام إلى غير عودة. وفي الأزمات الكبرى تظهر غيرة المدن الجميلة على بعضها البعض، وليس من بعضها البعض.

وهناك موقفان من لبنان بين الزملاء المصريين. فريق لا يرى فيه أكثر من موضوع، أو حجر شطرنج في لعبة سياسية استراتيجية كبرى. بلد بلا قرار ذاتي يسلم نفسه لقرارات الآخرين ولعبة الأمم. وشعب عجز عن الاتفاق على صيغة للحياة وشكل للوطن وهيكل للدولة. كما لا يرى هذا الفريق في لبنانيي مصر أكثر من صدفة تاريخية ديموغرافية في زمن معين، حققت زمنها ومضت. مثلها مثل الطلاينة واليونانيين والخواجا بيجو.

الفريق الآخر يرى أن العلاقة عاطفية وروحية وأنها تداخلت في الفكر والفن والاقتصاد. ويستذكر أحمد عبد المعطي حجازي زمن الشعر والغناء وشوقي وجارة الوادي وكيف كتب «الأخطل الصغير» بالعامية المصرية لكي يضع لعبد الوهاب «يا ورد مين يشتريك». كانت تلك مرحلة كانت فيها «الأهرام» ملكا لمهاجرين لبنانيين. وكان فيها صالون مي زيادة ملتقى أشهر وأكبر علامات النور في الحياة الأدبية في القاهرة. وقبل أعوام كتب أحدهم «ذكرياته» عن مصر فطلع معه أن مي زيادة كانت تدير بيت دعارة. وكتبت يومها إلى بريد القراء معترضا: هل كتب العقاد رائعته في داعرة؟ وهل هذا كان مسرى الزيات وطه حسين ومصابيح ذلك الصالون الأدبي؟ وهل أحب جبران خليل جبران فاسقة في مربع؟ وهل يمكن لكاتب أن يروي «ذكرياته» عن مصر قبل أربعين عاما من وصوله إليها؟