ليتهم يحبون لبنان مثلما يكرهون إسرائيل

TT

اذا عدنا الى كتب التاريخ الحديث، التي تحكي عن «النكبة» الفلسطينية، نقرأ انه ما بين شباط (فبراير) 1947 وآذار (مارس) 1948، تم تهجير 750 الف فلسطيني من اراضيهم، وتدمير 532 قرية، ومحو 11 مدينة، وحسب ما يقول المؤرخ ايلان بابيه: «ان القيادة الصهيونية حددت 80% من ارض فلسطين ـ اسرائيل اليوم باستثناء الضفة الغربية ـ كمساحة لدولتها». ومنذ ذلك التاريخ يعيش هؤلاء الفلسطينيون في المخيمات، يشاركهم فيها العذاب والمعاناة واستغلال القادة لهم باسم الصمود.

في لبنان، وخلال ثلاثة اسابيع فقط تم تهجير 800 الف لبناني من مدنهم وقراهم، حيث لم يبق منها الا الاطلال، ولم يتسن لهم بعد البكاء عليها. اما المستقبل الذي ينتظرهم، فانه يأتيهم من التهديد بالمحاسبة الموجه لكل اللبنانيين، اذا ما اصروا على طرح السؤال: لماذا جرى الذي جرى، ألم يكن من الافضل الاستغناء عن حرب لم يتم الاستعداد لها ولو بملجأ على الاقل لقد اعترف الشيخ نعيم القاسم، الرجل الثاني في «حزب الله»، في حديث الى صحيفة «الصاندي تايمس» يوم الاحد الماضي 30 تموز (يوليو)، بان الحزب يستعد لهذا الصراع منذ ست سنوات، اي منذ انسحاب اسرائيل عام 2000، لانه لم يكن مقتنعا بأن طموحات اسرائيل انتهت مع انسحابها. قال الشيخ نعيم قاسم: «ان اصرار اسرائيل على البقاء في مزارع شبعا وعدم اطلاق سراح الاسرى واستمرار تحليق طائراتها فوق لبنان، كلها دلائل على نواياها العدوانية ضد لبنان». ورأى الشيخ قاسم انه لولا تكديس حزب الله الاسلحة وحفره وتحصينه عدة خنادق وانفاق طوال السنوات الست الماضية، التي كانت مفتاح مقاومته «لكان لبنان هزم في ساعات قليلة».

ان لبنان لم يُهزم، ولكنه طُعن، وقد يصبح فلسطين ثانية بفعل الدمار الذي لحق بمناطقه ـ تقول احدى الفتيات: «لم يعد هناك ما يُسمى «بنت جبيل»، انتهت بنت جبيل». وتقول سيدة والى جانبها ابنها المرعوب: «لن اعود في حياتي الى بنت جبيل» ـ تحتاج الى سنوات وسنوات لاعادة بنائها، ولم يحصل في التاريخ ان اعادت مظاهرات التأييد في الدول العربية بناء منزل، او مدينة او مصنع، ثم ان لا شيء يجمع الشعوب المتقاتلة مثل الكراهية، وليت كل الذين تظاهروا دعماً للصمود، احبوا لبنان مثلما يكرهون اسرائيل. ويقول سياسي اردني معارض: «اننا نتمنى ان نكون حذاء في قدم ابن الجنوب اللبناني»، لكنه لا ينتبه الى ان ابن الجنوب صار حافي القدمين، مشردا ومطمورا تحت التراب. لم يكن هناك من يوفر له وسيلة، وهو الفقير، لتنقله الى مكان اكثر أمنا، ويصرخ احد ابناء عائلة شلهوب، التي فقدت الكثير من اطفالها في مجزرة قانا المكررة: «لو كان معي أجرة سيارة لأنقذت عائلتي». وقال قائد الحرس الثوري الايراني الجنرال يحيا رحيم صفوي: «علينا ان نبقي كراهيتنا المقدسة لاعداء الاسلام مشتعلة في قلوبنا الى ان يحين وقت الانتقام (...)، ان حزب الله والشعب اللبناني لا يقهرون، وان هذا الورم السرطاني يجب ان يموت». هكذا قرر الجنرال صفوي، وما علينا الا الانتظار.

ويطل على لبنان يوم الاثنين الماضي وزير الخارجية الايراني منوشهر متقي، لا نعرف ما اذا كان جاء يعزي بضحايا قانا، أم انه جاء لعقد صفقة يضمن فيها مصلحة ايران النووية. (في الحرب العراقية ـ الايرانية سقط اكثر من 100 الف ممن لم يتجاوزوا الثانية عشرة من العمر عندما تقدموا الجيش الايراني لتنظيف الحقول من الالغام). ايران تدعم كل عمليات حزب الله التي تُشن من اجل ان تطلق اسرائيل سراح الاسرى، واثناء وجود متقي في بيروت، نقلت وسائل الاعلام خبر وفاة المعارض الايراني اكبر محمدي في سجن ايفين الشهير، وهو احد قادة انتفاضة الطلاب التي اندلعت عام 1999، وحكم عليه اولا بالاعدام مع انه لم يرتكب اي جريمة قتل، ومن ثم خففت السلطات الحكم لمدة 15 سنة، ثم منعته من لقاء محاميه فأعلن اضرابا عن الطعام لأكثر من اسبوعين حتى وفاته. والاعتقالات في ايران ظاهرة مستمرة.

اما سوريا فانها منذ حرب تدمير لبنان الاخيرة، وهي تكرر وقوفها الى جانب المقاومة، ويقول الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عندما يُسأل عن سبب تلكؤ الدعم العسكري السوري في هذه الفترة:

«لم يحدث ان ساومت سوريا او ايران على المقاومة». وهذا صحيح طالما ان تبعات المقاومة لا تلقى على اي منهما. ويوضح لي صديق فلسطيني الامر قائلا: «ان سوريا ممر وليست مقرا للمقاومة ، ان سوريا تعمل لمصلحتها وكذلك ايران، لسنا ضد هذا انما عليهما ترك لبنان والفلسطينيين يعملون لمصالحهم، لكن المشكلة تتمثل بوجود فلسطينيين ينفذون اوامر سوريا ولا يأخذون رأي مليون و200 الف فلسطيني يقيمون في شريط بؤس مساحته 169 كيلومترا».

الآن هناك عدة اخطار اضافية محدقة بلبنان ومستقبله ككيان. عام 1996 حدثت مجزرة قانا الاولى، سرّعت تلك المجرزة في انهاء عملية «عناقيد الغضب» الاسرائيلية وادت الى تفاهم نيسان بين حزب الله واسرائيل. بعدها خطف حزب الله جنودا ورجل اعمال اسرائيليين، فرضخت اسرائيل واجرت تبادلا للسجناء. لكن قواعد اللعبة تغيرت وما ادركوا ذلك، فجاء الدمار للبنان، وحاول السيد حسن نصر الله اقناعنا بأن اسرائيل كانت تعد خطة عسكرية ضد لبنان وان عملية الحزب افقدها عنصر المباغتة. ربما كانت هناك خطة عسكرية، انما لحرب اميركية على ايران، وكانت التوقعات بحدوثها قبل شهر تشرين الاول (اكتوبر) المقبل. ومنذ بدء الجرائم الاسرائيلية بحق لبنان واللبنانيين والمحاولات على اشدها لجعلنا ننسى السبب، والاخطر ان الحزب يخيرنا: اذا لم نقف معه، فهذا يعني اننا نقف مع اسرائيل. لكننا مصرون على الوقوف مع لبنان، كل لبنان المهدد الآن بما هو اخطر من الحرب الاسرائيلية عليه. لقد بدأت اصوات تهدد بأنه اذا ما اتفق العالم على ارسال قوات دولية تحمي الجنوب او ما تبقى منه، فإن فتنة داخلية ستشتعل. ما هذا الكلام التحريضي الخطير وتقول هذه الاصوات، ان اي نشر لقوات دولية يجب ان يحظى بـ«وفاق لبناني»، لكن هل جاءت عملية خطف الجنديين الاسرائيليين بوفاق لبناني وتضيف هذه الاصوات ان الجيش اللبناني لا يمكنه الانتشار في الجنوب، «فهو ضعيف»، لكنها في الوقت نفسه تقول اذا ما غزت اسرائيل الاراضي اللبنانية فان الجيش سيتصدى لها. كيف يكون الجيش ضعيفا، ولا يملك من الاسلحة ما يدافع به عن نفسه، ثم يُزج به في معركة مواجهة مع القوات الاسرائيلية هل هناك من خطة للقضاء على الجيش اللبناني وتسليم البلاد الى مقاتلي المقاومة، فتكون هذه الخطوة الاولى في اتجاه «الفتنة الداخلية»، التي تتحدث عنها هذه الاصوات.

تتباهى بعض الاصوات بضعف الجيش، رغم ان اكثر من نصف ميزانية لبنان كانت تصرف على بنائه، هكذا كان المسؤولون يقولون اثناء بنائهم للدولة في ظل الوجود السوري، ولا ندري اي دولة بنوا، اذ تبين ان ترسانة حزب الله من الصواريخ تفوق ما يملكه الجيش من ذخيرة. على كل اذا كان قرار توريط الجيش قد اتخذ، نقول واصبح الكل يعرف، ان حكومة اسرائيل اتخذت قرارا بالاجماع، على شن حملة برية قد تصل الى ما ابعد من جنوب لبنان، وقد تتمدد الى البقاع الغربي وهذا يفسر القرار بالانسحاب من بنت جبيل مؤقتا، بعدما تم تدميرها استعدادا لمرحلة جديدة من العمليات، وتحدثت التقارير العسكرية عن حشودات عسكرية كبيرة قبل الاعلان عن وقف الغارات الجوية لمدة 48 ساعة.

وتجدر الملاحظة ايضا ان اسرائيل قصفت كل الطرق والجسور على طول الحدود اللبنانية ـ السورية، وهذا يشير الى انها لا تنوي استعمالها للهجوم برا على سوريا، والا لكانت ابقت عليها، وتريد في الوقت نفسه حماية جنودها من اي هجوم سوري. هي باختصار لا تريد مهاجمة سوريا ولا تريد ان تهاجمها سوريا. بعد قصف كل الطرق استنفرت سوريا قواتها على الحدود اللبنانية، وقد فسر المراقبون ذلك بانه مع كثرة الزيارات الدولية الى لبنان والاتصالات الفرنسية ـ الايرانية، ارادت دمشق لفت الانظار الى انها لا تزال اللاعب الاساسي في لبنان.

ان سقوط الضحايا في قانا اكثر من مؤلم وحزين، ولكن كم من الضحايا سيسقطون، اذا ما نفذت اسرائيل تهديدها بالغزو البري بعض المتشددين في واشنطن ينصحون الادارة، بحرمان «حزب الله» من تحقيق نصر سياسي، بتوجيه انذار الى ايران بالتخلي عن برنامجها النووي وشن غارات جوية عليها اذا لم تمتثل، وبدلا من التحاور مع نظام بشار الاسد يرون ان على واشنطن استغلال الفرصة لزعزعته، وعوضا عن بذل الجهود للابقاء على العراق موحدا العمل على تقسيمه، خصوصا ان السنّة والشيعة هناك يهربون من المناطق المختلطة، ثم ان عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية المدعوم من ايران، دعا الاسبوع الماضي الى التقسيم.

اما لبنان، فليس معروفا الى ما سينتهي وضعه، ان قوات متعددة الجنسيات ستواجه حرب عصابات من قبل مقاتلين، عرفوا بانهم رواد العمليات الانتحارية، الا اذا نجحت فرنسا في مسعاها مع اميركا وايران. ومن المرجح ان يستمر سقوط الضحايا اللبنانيين في تصاعد طوال شهر آب (اغسطس)، الى ان يحين وقت تقديم ايران ردها على مجلس الأمن بخصوص برنامجها النووي.

بعض المراقبين يتوقع ان تعتمد ايران على مقاومة حزب الله، ورفضه انتشار قوات دولية، يدعمه في ذلك بعض اللبنانيين واعتبار سوريا لهذه القوات بانها قوات احتلال، فتتحدى طهران الغرب في المسألة النووية، وعندها لا تجد الولايات المتحدة مفرا من مهاجمة المنشآت النووية الايرانية خلال هذه السنة.

مراقبون آخرون يستبعدون ذلك ويتوقعون ان تكون ايران البادئة في التجاوب كي تحمي نظامها وبرنامجها الاقليمي الطويل الامد، ولا يستبعدون تنافسا سوريا ـ ايرانيا في هذا المجال، وفي كلا الحالتين سيظل لبنان يدفع ثمن الصفقات الاقليمية والدولية، وسيظل الشارع العربي يهتف دعما للصمود ولا يرى عدد المهجرين اللبنانيين، الذي قد يصل الى نصف الشعب اللبناني.