«الشرق الأوسط الجديد» كذبة كبرى ولا حل في الأفق للأزمة اللبنانية

TT

لم تجد وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ما تقوله للمسؤولين الفلسطينيين الذين التقتهم، خلال زيارتها ما قبل الأخيرة للمنطقة، والذين سألوها عن ماهية «الشرق الاوسط الجديد» الذي تروج له سوى التأكيد، بدون أي ضمانات، على ان دور المسار الفلسطيني سيأتي بعد الإنتهاء من الأزمة اللبنانية وبعد تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 1559 الذي ينص على تجريد «حزب الله» من أسلحته وبسط سيادة دولة لبنان على كل الأراضي اللبنانية.

وروى أحد الذين حضروا هذا اللقاء، الذي انعقد قبل لقاء كوندوليزا رايس مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، ان المسؤولين الفلسطينيين الذين انهالوا بالأسئلة الملحِّة على وزيرة الخارجية الاميركية لم يجدوا ما يفعلوه، بعد ان سمعوا ما سمعوه ردَّاً على استفساراتهم عن حقيقة «الشرق الأوسط الجديد» الذي تروج له واشنطن، سوى أن تبادلوا نظرات الاستغراب وسوى ان قال أحدهم بصوت مرتفع: «لا حول ولا قوة إلا بالله .. وإنا لله وإنا إليه راجعون».

قبل هذا كان المسؤولون الفلسطينيون الذين حرصت كوندوليزا رايس على لقائهم، قبل لقاء محمود عباس (أبو مازن)، قد تحدثوا مطولاً عن ان السياسات التي تتبعها إسرائيل بمباركة ودعم الولايات المتحدة الأميركية هي التي أوصلت المنطقة الى ما وصلت إليه «فتدمير الاعتدال الفلسطيني كانت نتيجته بروز حماس كقوة رئيسية في الساحة الفلسطينية وإهمال لبنان بعد حرب تحرير الكويت هو الذي جعل حزب الله يصبح بهذه القوة والسياسة العجفاء القصيرة النظر التي اتبعها الاميركيون في العراق، هي المسؤولة عن تحول إيران الى قوة إقليمية فرضت نفسها على كل معادلات المنطقة حتى بما في ذلك معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية»!!.

والحقيقة أن السؤال الذي يجب ان يوجه ليس الى كوندوليزا رايس وحدها وإنما الى الرئيس الاميركي جورج بوش وكل رموز إدارته هو: ما هو هذا الشرق الأوسط الجديد الذي باتت تروج له الولايات المتحدة بينما المنطقة الشرق أوسطية تضربها الزلازل والبراكين من كل جانب وبينما الأفق غدا مغلقاً ومسدوداً وبينما عملية السلام المترنحة أصبحت بحكم المنتهية..؟!.

في لبنان هناك حرب طاحنة مفتوحة على كل الاحتمالات السلبية والوضع اللبناني معقد ومتداخل وهناك آياد كثيرة تتلاعب بالشؤون الداخلية لهذا البلد الذي كان شعار أهله: «قوة لبنان في ضعفه» والذي كان يعتبر برجاً إعلامياً وسياسياً في المنطقة كلها وغدا ضحية تناقضات وتعارضات وصراعات هذه المنطقة وبات رقماً استخدامياً في معادلة الشرق الأوسط وساحة رئيسية لمعارك تصفية حسابات دولها المجاورة والبعيدة.

وفي إسرائيل هناك حكومة يشارك فيها حزب يعتبر نفسه يسارياً وليبرالياً بينما هو أكثر يمينية من أعتى اليمين الإسرائيلي وعلى رأس هذه الحكومة أيهود أولميرت الذي هو تلميذ شارون المخلص ويحاول ان يطبق مقولة: «ان التلميذ أشطر من أستاذه» ولذلك فإنه منذ أن أصبح رئيساً للوزراء، أولاً بالوكالة ثم بالأصالة، لم يتوقف ولو للحظة واحدة عن محاولات التخلص من الشريك الفلسطيني المفاوض وعن تدمير عملية السلام وعن دفع الشعب الفلسطيني، في غزة والضفة الغربية على حدٍّ سواء، الى التطرف والعنف والانتحار!!.

وإلى جانب هذا فإن هناك المأزق العراقي الذي لا يوجد أي أفق لحله والذي ما ان يخرج من حلقة نارية حتى يدخل حلقة نارية جديدة، فالحرب الأهلية باتت تتجول في شوارع المدن العراقية كلها في وضح النهار والبلاد آخذة بالتفسخ والدولة مستمرة في التلاشي والإيرانيون يعززون مواقعهم ويثبتون أركان مراكز نفوذهم بينما الأميركيون غارقون حتى أعناقهم وباتوا يحاولون اللحاق بالأحداث المتسارعة لكنهم لا يدركونها.

ثم وهناك إيران المستفيدة من عوائد نفطها والنفط العراقي الهائلة وهي تواصل مراكمة إنجازاتها في مجال مشروعها النووي، إنجازاً بعد إنجاز، وهي في ضوء ما أصبح العراق عليه غدت رقماً فرض نفسه على معادلة المنطقة وغدا نفوذها متجذراً في لبنان وفي فلسطين وفي العديد من الدول العربية.

فمتى سينتهي المأزق اللبناني حتى تفي كوندوليزا رايس بوعدها للمسؤولين الفلسطينيين الذين التقتهم خلال زيارتها ما قبل الأخيرة الى هذه المنطقة حيث وعدتهم بـ«الشرق الأوسط الجديد» وبأن دور المسار الفلسطيني المتعثر سيأتي بعد حل الأزمة اللبنانية..؟!.

إنها عقدة العقد فإسرائيل ستعتبر نفسها منهزمة إن هي لم تستطع استعادة جندييها المختطفين بدون الإذعان لشروط حزب الله وإملاءاته وإن هي لم تخلق معادلة جديدة في لبنان يتم بموجبها إنشاء الشريط العازل الذي تطالب به على طول الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية وإن لم يتم نزع سلاح الميليشيات وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 وتفرض الدولة اللبنانية سيادتها على كل أراضي بلدها.. وأيضاً إن لم ينته النفوذ السوري والإيراني في لبنان كله.

وسوريا المتحالفة مع إيران لن تسلَّم بأي هزيمة لحلفائها في لبنان وعلى رأسهم حزب الله وهي ستبقى تلعب لعبة خلط الأوراق لتبقى تحافظ على تلازم المسارين السوري واللبناني ما دام أن عملية السلام بقيت متوقفة على مسار هضبة الجولان وأكثر من هذا فإنها ستحاول استعادة كل نفوذها السابق في الدولة المجاورة وعلى أساس إقناع كل ذوي الشأن بأن هذا النفوذ لا يمكن الاستغناء عنه، حتى وإن انتهت الحرب بصيغة لا غالب ولا مغلوب، لضمان هدوء الساحة اللبنانية.

وأيضاً فإن ما لا يمكن تصوره هو ان إيران، المتحالفة مع سوريا والقابضة بقوة على أعناق الأميركيين في العراق والتي أصبح لها موطئ قدم ثابت وقوي في فلسطين والتي تصل عوائدها من نفطها والنفط العراقي أرقاماً فلكية، من الممكن أن تسلم بأي هزيمة مفترضة لحزب الله فهذا الحزب ونفوذه وتشكيله دولة داخل الدولة اللبنانية يعتبر بالنسبة للإيرانيين خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه.

إن هذا كله يعني ان المأزق اللبناني سيستمر حتى بعد توقف الحرب وحتى وإن تراجع حزب الله عن مناطق الحدود الجنوبية وإنكفأ الى الخلف وحلَّت محله في الشريط الحدودي قوات دولية ووحدات من الجيش اللبناني فأوضاع لبنان كما هو معروف كانت دائماً وهي ستبقى بمثابة رمالٍ متحركة والمؤكد ان الذين يصرون على مواصلة فرض أنفسهم على المعادلة اللبنانية سيسعون الى إفشال حكومة فؤاد السنيورة الإئتلافية وهم سيواصلون إحباط كل مساعيها لأن تكون الطرف اللبناني المفاوض في كل الجهود المبذولة لحل هذه العقدة المستعصية.

لا يوجد أي أفق لوصول «الدور» الى المسار الفلسطيني العالق في عنق الزجاجة كما وعدت كوندوليزا رايس المسؤولين الفلسطينيين الذين التقتهم في زيارتها ما قبل الأخيرة الى المنطقة فالأفق مسدود وسيبقى مسدوداً ربما حتى الى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة و«الشرق الاوسط الجديد» الذي تروج له إدارة الرئيس بوش لايزال هدفاً بعيد المنال ومجرد سراب من المستحيل، في ظل ما هو قائم، إدراكه والأوضاع في الإقليم كله تزداد إنهياراً وتعقيداً يوماً بعد يوم والمصالح المتصادمة في هذه المنطقة الملتهبة ماضية في هذا التصادم حتى النهاية.

كل الحلول مؤجلة والوعد الذي قطعته كوندوليزا رايس للفلسطينيين سيطول تحقيقه وربما لن يتحقق في عهد هذه الإدارة التي دأبت على إطلاق عناوين زاهية لمشاريع وخطط خيالية صعبة التحقيق وبهذا فإن «الشرق الأوسط الجديد» سيبقى مجرد فكرة في الأدمغة الحالمة بينما الشرق الأوسط القديم بعنفه وإرهابه وزلازله وبراكينه سيتعملق فالعنف يولد العنف و«حزب الله» في لبنان هو حالة طبيعية بعد مذابح صبرا وشاتيلا وبعد غزو عام 1982 بكل دماره وويلاته، وحركة «حماس» في غزة والضفة الغربية هي حالة طبيعية بعد تدمير الاعتدال الفلسطيني وسد كل المنافذ عليه وما يجري في العراق هو نتيجة حتمية للسياسات العمياء التي انتهجتها الإدارة الأميركية في بلد غير عادي في منطقة غير عادية.