قطر أم الجزيرة .. ترى من يسير في الاتجاه المعاكس؟!

TT

المتأمل في السياسة القطرية، يلحظ ان ثمة غرابة في نهجها، ويشعر بأنها غير قادرة على رؤية الاشياء وتحليلها ضمن المنطق والمعقول والممكن، مما يعني عدم توازنها، لو ارتهنا الى المنهج العقلاني، حيث يتضح من الرسم البياني لهكذا سياسة، عدم الاخذ في الاعتبار الظروف والمعايير والمرجعية والمبادئ، وكأنها تكرس نهجا ديالكتيكيا (جدليا) يقوم على فكرة وفكرة مضادة لها!

على ان المقام هنا ليس للتجريح أو الهجوم، بقدر ما هو طرح ينزع الى القراءة العقلانية الموضوعية، ليتم استخلاص الاحكام بالاستدلال. ولذا فإن التفرد بالرأي والمكابرة والاساءة الى الاخرين، من نوع الاخطاء التي لا يمكن قبولها أو السكوت عنها، وعندما نبررها فإن هذا معناه: قابلية استفحالها. فالعقلانية في السياسة هي الحل، اما سياسة التمرد لأجل التمرد، فهذا قد ينجح لحظيا، اما على المدى الطويل فالنتيجة هي الصراع ومن ثم الانفصال أو الانهيار، وتلك نهاية مأساوية، لكنها طبيعية اذا حكمنا العقل.

إذن، لا بد من القول ان القرار السياسي تتضح فعاليته في اهدافه ومغزاه وتوقيته، وعندما تختلف هذه المعادلة أو يسقط احد عناصرها، فإن الفشل والتخبط والتمرد هو مآلها. وقد جسدت السياسة القطرية هذه المعادلة في مراحل معينة.

ان النظرة الموضوعية للسياسة القطرية، التي ادخلتها في دهاليز مظلمة حينا، وفي شرفات عالية حينا آخر، يعني في ما يعني عدم وضوح الرؤية والمعاناة من تضخم الانا. والحقيقة الماثلة للعيان ان الجعبة مليئة بالامثلة العديدة، التي تفضح هذه الغشاوة. فقبل عقد من الآن، عندما ناشدت دول مجلس التعاون الخليجي قطر الوقوف معها من أجل قرار موحد ضد ايران لاسباب ليست مثار نقاشنا هنا، تمردت قطر واتخذت قرارا فرديا (ذاتيا) بالتواصل مع ايران آنذاك، وقبل بضع سنوات، خرجت قرارات القمة العربية بالقاهرة مطالبة بالغاء التعامل مع اسرائيل، حيث لم تمض 24 ساعة على صدور البيان الختامي، حتى الغت تونس المكتب الاسرائيلي، ثم لحقتها عمان والمغرب، ليخرج لنا وزير الخارجية القطري معلنا ان قطر (تدرس) امكانية اغلاق المكتب. ولا ننسى دعوتها لشارون لزيارة قطر مع الاعلان عن عقد اجتماع لوزراء الخارجية لمنظمة المؤتمر الاسلامي، وتزامن ذلك مع غضب شعبي عربي جارف لممارسات شارون آنذاك، حيث قام بحرب مدمرة وشاملة للشعب الفلسطيني

كما ان الاستنجاد باسرائيل، وطلب دعمها للترشح لمجلس الأمن، يمثل اهانة حقيقية للعرب، واعترافا بالهيمنة والسيطرة والنفوذ الاسرائيلي، وخنوعا للرغبة الاميركية وتزلفا لها، فضلا عن تعامل الحكومة القطرية مع مواطنيها من آل مرة وتجريدهم من حقوقهم، كما تقول تقارير منظمات حقوق الانسان.

ومن المعروف ان ترتبط وسائل الإعلام عادة بمموليها، دولة كانت أم شخصا. ومن الطبيعي ان تنعكس هذه العلاقة على السياسة التحريرية لهذه الوسائل، بهدف خدمة مصالح مالكيها، لكن ما يحدث في الدوحة شيء آخر. ولعله تناقض معلن بين الجزيرة وصاحبتها دولة قطر، انما هناك مصالح خفية باتت مناط حيرة واستغراب لدى كثيرين. ولذا فإن ثمة علامة استفهام كبيرة تطرح نفسها حول من ترى يكون المستفيد من وراء كل ذلك؟ وما الذي تستفيده قناة الجزيرة من اثارة كل تلك المشاحنات والملاسنات الفضائية الرخيصة في بعض برامجها بدعوى حرية الرأي والمصارحة، التي ما لبثت ان تسببت في خلافات وعمقت نزاعات وأشعلت خصومات ما كان ينبغي لها ان تكون. وفتحت باب الرزق لبعض المرتزقة والموتورين من استغلال خلافات الاشقاء لكي يمارسوا الدور القبيح وبالطبع لا بد من مقابل.

ويكفي ان تتأمل اسلوب قناة الجزيرة وتركيزها على السعودية، لتشعر بغرابة الطرح والمعالجة، بينما الشؤون القطرية غائبة تماما.. أليس في قطر ما يستحق الاهتمام؟!

وتُرى من هو الطرف الخفي، الذي بات يسيطر على قناة الجزيرة ويوجهها وفق رغبته وتوجهاته، ضمن شبكة علاقات ومصالح متعددة. تساؤلات مشروعة، تقودنا بالتأكيد الى استقراء الواقع واستخدام القراءة العقلية في سياسة هذه الدولة، من أجل فهم مغزى العلاقة والهدف الذي تصبو اليه، لا سيما ان افرازاتها ستشكل امراً واقعاً لا يمكن اغفاله أو تهميشه في المنطقة. هل هو ارضاء قطري للضغط الاميركي الداعم لاسرائيل؟ أم هو تغريد خارج السرب لاثبات الوجود والتمرد عن المألوف؟! وهل تجد اسرائيل في السلوك القطري اختراقا للدول العربية ودول الخليج تحديدا، لبعثرة الاوراق وخلط المعادلات السياسية.

وحين المضي للمزيد من المكاشفة لا يمكن ان نقلل من مهنية الجزيرة الاخبارية، اذا ما ارتهنت الى الحياد والموضوعية، ولكن الاشكالية لا تكمن في الحياد المعلن، بقدر ما نلحظه في التضليل الخفي والتحريض الناعم، ان جاز التعبير، بتحويل بعض برامجها أو نشراتها الإخبارية إلى وسائل تواصل بين الجماعات المتشدة او ترويج للمشاريع الراديكالية او الاساءة الى دول شقيقة من اجل ابتزازها في مسائل لم تعد مجهولة. دعونا نستحضر امثلة، فهي في تقديري، الرابط بين العلة والمعلول.

على سبيل المثال، ما القاسم المشترك بين بثها لشريط لزعيم تنظيم القاعدة يحرض فيه شعوب الخليج، تزامنا مع بثها لشريط لمنفذي تفجير المحيا بالرياض؟! بالتأكيد المضمون والتوقيت والمغزى! ويبدو ان ثمة مصالح تلاقت وتقاطعت بين اصحاب تلك الغايات وبين من يبث تلك الاشرطة، وكأنما ثمة مصلحة مشتركة بين الطرفين، فالاول يوقن ان رسالته ستصل، في حين ان الطرف الثاني يستفيد ايما استفادة من البث، حيث الدعاية وجذب المشاهد بغض النظر عن اخلاقيات المهنة.

ولعل هذا ما جعل البعض يرى ان ثمة معادلة في تناقض الدولة والقناة، تكمن في سيطرة الاخوان المسلمين على قناة الجزيرة، في حين ان حكومة قطر تدعو الى السلام مع اسرائيل، وتحتضن قاعدة العديد الاميركية. وهي معادلة مثيرة للتأمل والدراسة.

وكان محقا الزميل مأمون فندي في رؤيته حينما قال ان «الجزيرة الحقيقية (دولة قطر) تدعو الى الاصلاح الأميركي من مصر الى افغانستان، بينما تحتضن «جزيرة الصور» الشيخ القرضاوي، وأنصار ابو مصعب الزرقاوي؟!

الجزيرة الحقيقية على الارض تساند الأميركان، وجزيرة الصور تقاومهم. الجزيرة الحقيقية تصنع سلاما مع اسرائيل، وجزيرة الصور تدعو الى مقاومة اسرائيل. جزيرة الصور مع العرب بينما الجزيرة الحقيقية مع أميركا».

وبالعودة الى عالم البرهان والدليل، فانني اشعر بل وموقن، بان من يتابع برنامج الاتجاه المعاكس يلحظ، وبلا ادنى شك، طبيعة الحوارالاستفزازي الحاد والجارح وغير الحضاري، وكأنه العلامة البارزة للبرنامج، مما يجعل المتحاورين يتنافسون في الشتائم، وليت الامر توقف عند هذا الحد، بل يتم التحضير للحلقة بان يكون الضيوف منتقين لاكمال السيناريو، فالضيف الذي سيقوم بمهاجمة السعودية مثلا، وقد حدث كثيرا، يتم اعطاؤه المعلومات والاسئلة والارقام قبل الحلقة، حتى يضغط على الضيف الاخر، كما ان سياسة البرنامج تقضي مقاطعة من يطرح الرأي العقلاني واعطاء وقت اكبر للديماغوجي صاحب الصراخ والشتائم ضمن اتفاق مسبق، ناهيك من الاتصالات المرتبة مسبقا ومهزلة الاستفتاءات المعروفة نسبتها سلفا.

لقد كنا نتطلع إلى أن تكون الجزيرة وسيلة اعلامية محايدة تكرس شعارها، غير أنها وللاسف الشديد تحولت الى أن تكون وسيلة لتنفيذ أجندة جماعات سياسية اصولية وقومية متشددة والدفاع عن قوى الإرهاب في العراق والاضرار بالمسألة اللبنانية. في حين ان الخطاب السياسي لقطر يطرح النقيض، حيث السلام والتعاون مع اسرائيل والترحيب بالوجود العسكري الاميركي.

مفارقة، ولكنه الواقع المرير، حيث يبدو ان العلاقة بين قطر وقناتها هو تجسيد لمفهوم الاتجاه المعاكس، ولا نحتاج لقوى خارقة لكي نفهم مغزاها، فلحسن الحظ هو احد برامج القناة ومشاهدة حلقة واحدة منه كفيلة بحل اللغز.. أليس كذلك؟!