حكاية الشرق الأوسط الجديد

TT

لوحت وزيرة الخارجية الأمريكية خلال زيارتها الأخيرة للمنطقة بشعار «الشرق أوسط الجديد»، معتبرة أن وقف إطلاق النار على الجهة اللبنانية لا جدوى منه من دون تضمينه داخل منظور إقليمي شامل لحل مشاكل المنطقة الجوهرية.

ومع أن هذا الشعار قد أطلق في العقد الأخيرين مرات عديدة، بداية من حرب تحرير الكويت التي اعتبرها الرئيس الأسبق بوش الأب المحطة الأولى من مسار شرق أوسطي جديد، مرورا باتفاق أوسلو 1993 الذي نظرت إليه الإدارة الديمقراطية الحاكمة أوانها بأنه خطوة تمهيدية لإقامة نظام شرق أوسطي مندمج انتهاء بخطابات الرئيس الحالي بوش وأركان إدارته بعد حرب العراق الأخيرة المبشرة بشرق أوسط ديمقراطي وحر على أنقاض الأنظمة المستبدة.

بيد أن تصريحات وزيرة الخارجية، تقتضي وقفة انتباه خاصة، لكون كوندوليزا رايس ليست مجردة موظفة سامية في الإدارة الأمريكية، بل مشاركة رئيسية في صنع القرار، كما أنها تميل في خطاباتها الظرفية إلى الصياغات الأكاديمية الرصينة التي تميزها كجامعية مرموقة.

والمعروف أن رايس وإن كانت تبتعد عن مثالية وراديكالية المحافظين الجدد الذين كثر الحديث عنهم في السنوات الأخيرة، إلا أنها تسعى لتجديد أدوات الخطاب الاستراتجي الأمريكي التقليدي القائم على مفاهيم الواقعية البراغماتية. من هذا المنظور طرحت في السنتين الأخيرتين فكرتين أساسيتين هما: فكرة «الفوضى الخلاقة» للتعبير عن مأزق التحول الديمقراطي في العالم العربي العائد إلى الانفصام القائم بين المصالح الاستراتجية الأمريكية وقوى التغيير المستفيدة من التحول المنظور، وفكرة «أولوية التركيبية الداخلية للنظام السياسي على سياسته الخارجية». من منظور أن الحكومات الديمقراطية هي وحدها التي يمكن أن تضمن السلم الدولي وتحمي المصالح الأمريكية العليا.

والعلاقة بين الفكرتين جلية، لا تحتاج للتوضيح، وإن كانت تتعارض مع أساسين بارزين من أسس التقليد الاستراتيجي الأمريكي هما: الحفاظ على الوضع القائم الذي يلائم عادة القوة المهيمنة، والفصل بين طبيعية النظام السياسي وسياسته الخارجية. وإذا كانت أدبيات المحافظين الجدد تنضح بمثل هذه التصورات، إلا أن الفرق الدقيق بينها ومقاربة السيدة رايس يتمثل في التزام رايس بمقاييس وقواعد اللعبة الاستراتيجية العالمية، من خلال توظيف عملي ناجع لدوائر الشراكة الدولية لإخراج «شرعي» ومقبول للمواقف الأمريكية. وقد أثبت هذا الخط فاعليته في إدارة العديد من الملفات الشائكة، بما فيها الملف اللبناني بعد اغتيال رئيس الوزارء الحريري، في الوقت الذي كشفت التجربة العراقية عن المأزق الذي تقود إليه الاستراتجيات الانفرادية المنفلتة من أطر الشرعية الدولية.

ومن الواضح أن النموذج الذي تصدر عنه السيدة رايس، هو النموذج الشرق أوروبي أي تجربة التحول من الأنظمة الاستبدادية المناوئة للولايات المتحدة إلى الديمقراطية المسالمة الحليفة.

فحسب قراءة رايس لهذا التحول (وهي المتخصصة في الدراسات السوفياتية)، أفضى انهيار الأحكام القمعية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية إلى مرحلة فوضى وتأزم حادة، تمايزت خلفياتها ووتيرتها الزمنية لكنها أفرزت في نهاية المطاف أنظمة ديمقراطية مستقرة، انضم أغلبها إلى الحلف الأطلسي وانتهج سياسة خارجة موالية لأمريكا.

صحيح أن الفضاء العربي الإسلامي يختلف من حيث الخلفيات الفكرية والتاريخة والمجتمعية عن الفضاء الاوروبي الشرقي الذي ينتمي لنفس المجال الثقافي والقيمي الغربي، إلا أن رايس اعتبرت في خطابها المشهور في الجامعة الأمريكية بالقاهرة (عام 2005) أن «التهديد الأصولي» الذي كثيرا ما يكون فزاعة لتبرير عرقلة التحول الديمقراطي في البلدان العربية لا يمكن أن يهزم إلا في الحلبة الديمقراطية نفسها التي من شأنها أن تطور من خلال آلياتها البناءة الممارسة السياسية التي تلائمها.

هل لا تزال رايس تؤمن بهذه النظرية، بعد أن باركت الولايات المتحدة الحرب الإسرائيلية المفتوحة على حكومة حماس المنتخبة ديمقراطيا والعدوان على لبنان الذي سينهك أن لم يقوض حكومة السنيورة التي تعلن دعمها؟

على الرغم من أن رايس كررت في زيارتها الأخيرة شعار الشرق الأوسط الجديد، وأعادت طرح نظريتها الثورية حول النقلة الديمقراطية المنشودة، إلا أن الصفقة التي ظهرت عناوينها الكبرى، لم تتجاوز بنود السياسية التقليدية الأمريكية في المنطقة:

ـ دعم تقويض البنية العسكرية لحركات المقاومة الإسلامية في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، لحمل حركة حماس على الدخول في منطق التفاوض السلمي مع إسرائيل، من دون تحديد سقف أدنى لمضمون الحل النهائي المطلوب ولا تعيين جدول زمني له.

ـ نزع سلاح «حزب الله» اللبناني وإخراجه من أرضية المواجهة مع إسرائيل، وتطبيع وضعه السياسي داخل الساحة اللبنانية «كحزب طائفي يمثل بعض المكونات الشيعية».

ـ القضاء على الدور الإقليمي السوري على الساحتين اللبنانية والعراقية وعزل سوريا عن إيران وحملها على القطيعة مع الحركات الفلسطينية المنعوتة بالراديكالية (أي الرافضة لمنطق التسوية السلمية مع إسرائيل).

ـ احتواء المأزق السياسي والأمني في العراق، بالعمل على كسب ثقة الطائفة السنية العربية، وإشراك دول المنطقة المحورية (المملكة العربية السعودية، تركيا ومصر) في بلورة الصيغة البديلة المنشودة.

ـ عزل إيران والوقوف ضد مشروعها النووي، وبناء ائتلاف إقليمي واسع ضد اختراقاتها الإستراتيجية الملموسة للمنطقة ونزوعها لتوظيف البعد الطائفي في هذا الدور الإقليمي الجديد.

يبقى القول إن هذه الاتجاهات تعيد الاستراتيجية الأمريكية إلى منطق التوازنات الواقعية، وتبعدها عن منطق الفوضى البناءة وحلم الربيع الشرق أوسطي الديمقراطي.