أميركا وإيران: من يكسب الشرق الأوسط؟

TT

بينما يستمر النزاع في لبنان ترتسم كلمة واحدة على معظم الشفاه: وقف اطلاق النار. وقد اصبحت كلمة وقف اطلاق النار الأخاذة بديلا عن السياسات الضرورية لتخليص الشرق الأوسط من الأسباب الجذرية للعنف وتحقيق الاستقرار في أوضاعه.

وهذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها القوى الكبرى وتلك المتورطة في القتال ورقة التين. فقبل عشر سنوات، وفي أعقاب مأساة أخرى في قرية قانا اللبنانية، تحركت عجلات الدبلوماسية لتحقيق وقف لاطلاق النار انهى اول محاولة من جانب اسرائيل لاستئصال حزب الله. واستمر وقف اطلاق النار ذلك ما يقرب من عقد من الزمن شعرت اسرائيل خلاله بالأمن من هجمات حزب الله الى حد جعلها تنسحب من شريط الأرض التي كانت قد استولت عليها لفترة تقرب من عقدين.

غير ان وقف اطلاق النار ذلك، كما نعرف الآن، لم يعالج السبب الجوهري للمشكلة متمثلا في عجز كل طرف عن قبول وجود الطرف الآخر. فحزب الله يريد ازالة اسرائيل من الخريطة. واسرائيل تسعى الى ازالة حزب الله كمنظمة عسكرية. وهذا القتال تحفزه تهديدات وجودية وليس نزاعات تتعلق بالأرض يمكن تسويتها عبر الدبلوماسية.

وحتى في هذه الحالة فان كثيرين سيبقون ساعين الى وقف لاطلاق النار كخيار أقل سوءا ذلك انه يمكن أن يوفر ظروفا لتنظيم الاغاثة الانسانية.

والمشكلة أن أولئك الذين نشروا فكرة وقف اطلاق النار لا يبدون انهم فكروا بالمشكلات المعنية. فقد أخفقت الصلات مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والحكومة الفرنسية، وكلها تحث على وقف اطلاق النار، في تقديم الاجابات على الأسئلة الأساسية المطروحة.

والسؤال الأول هو: من سيكون أطراف وقف اطلاق النار؟

والجواب الواضح هو: اسرائيل وحزب الله.

غير أن مثل هذا الاتفاق سيستدعي من اسرائيل الاعتراف بحزب الله، الذي تعتبره منظمة ارهابية، كبديل للدولة اللبنانية. وعلى اية حال فان حالات وقف اطلاق النار تعتمد على حقائق جغرافية ملموسة. والسؤال هو من يسيطر ويمثل المناطق التي يمكن ان يلتزم فيها حزب الله بوقف اطلاق النار؟

واحد من الحلول يتمثل في وقف لإطلاق النار توقع عليه الحكومة اللبنانية. إلا ان هذا الخيار لا يخلو ايضا من مشاكل. فالتيارات المتنافسة داخل الحكومة اللبنانية لها مواقف مختلفة فيما يتعلق بالنزاع الحالي.

الرئيس اميل لحود، على سبيل المثال، اوضح خلال حديث له مع قناة تلفزيونية فرنسية ان «حزب الله» هو الذي يمثل لبنان في هذا النزاع وليس حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة. كما ان رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، يريد من جانبه تقليص دور «حزب الله» دون ان يعطي دفعة لحكومة السنيورة. يضاف الى ذلك ان وضع حكومة السنيورة اكثر تعقيدا، فهي ترغب في التوصل الى وقف لإطلاق النار لكنها ليست على استعداد لضمان تطبيقه إلا اذا امسك الجيش اللبناني بزمام الأمور في جنوب لبنان، وهذا ما اكد «حزب الله» انه لن يسمح به على الإطلاق.

ثمة حديث ايضا حول ضمانات من جانب الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة حول وقف إطلاق النار. وهذا يتطلب إلغاء الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة قوانينهما التي جرى بموجبها تصنيف «حزب الله» منظمة ارهابية، وهذا امر سهل من الناحية النظرية لكنه صعب التطبيق.

وفي نفس الوقت يبدو ان رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت قبل فكرة جنرالاته بأن «حزب الله» تلقى ضربة مؤلمة وان استمرار الحملة العسكرية لمدة اسبوعين آخرين سيؤدي الى القضاء عليه تماما. إلا ان لا دليل حتى الآن يسند هذه التحليل. إذ ان «حزب الله» تبنى تكتيكا للزعيم الايراني الراحل آية الله الخميني وطبق داخل ايران وفي وقت لاحق خلال الحرب العراقية ـ الايرانية، وهو تكتيك يقوم على اساس المحافظة على حياة المقاتلين بإخفائهم وسط المدنيين.

ويمكن مشاهدة نجاح هذا التكتيك مرة اخرى بعد مرور حوالي ثلاثة اسابيع على القتال الحالي في لبنان. إذ ان «حزب الله» اعترف بمقتل عشرة من مسلحيه فيما وصل عدد القتلى المدنيين الى نحو 800، ويقدر عدد مقاتلي «حزب الله» بحوالي 8000. ويمكن القول ان اسرائيل اذا ارادت ان تقضي على كل مقاتلي «حزب الله» ينبغي عليها قتل ربع سكان لبنان.

فيما يتعلق بخسائر «حزب الله» في السلاح، يمكن تعويض هذه الخسائر على وجه السرعة بواسطة ايران كما اشار الأدميرال علي شمخاني، رئيس لجنة سياسات الدفاع التي شكلت حديثا وتتخذ من العاصمة الايرانية طهران مقرا لها.

ليس هناك أي معنى لوقف إطلاق النار إلا إذا قُدمت إجابة عن هذا السؤال: من يسيطر على الأرض في جنوب لبنان ليوفر لإسرائيل منطقة عازلة حقيقية.

في عام 1996 واجه هذا السؤال هارفي دو شاريت الذي كان يشغل وزارة الخارجية الفرنسية والذي حاول التوسط بوقف إطلاق النار بعد مذبحة قانا الأولى.

أدرك دو شاريت مباشرة أمرين:

الاول، ليس هناك أي حكومة لبنانية قوية بما فيه الكفاية للتحكم في الجنوب وفرض وقف لإطلاق النار. ثانيا، كان من السذاجة توقع ان تتخلى إسرائيل وحزب الله عن كراهيتهما المتبادلة وضمان تحقق وقف إطلاق النار. وفي وضع كهذا فإن هناك دائما احتمال قيام عناصر متطرفة من الطرفين تستعمل وقف إطلاق النار كغطاء لتحضير هجمات جديدة في المستقبل.

كان اقتراح دو شاريت هو جلب إيران وسورية في جانب وجلب الولايات المتحدة والآخرين في جانب آخر لتقديم ضمانات لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله. كذلك أدخل مجلس الأمن الدولي كي يكون غطاء. دو شاريت ونظيره الإيراني آنذاك علي أكبر ولايتي أصبحا رئيسي اللجنة من حيث الفعالية لضمان وقف إطلاق النار.

وحسب كل الشهادات كان ذلك نجاحا كبيرا للدبلوماسية. ووفر فترة هدوء لأكثر من عشرة أعوام على الحدود. وبعد أربعة أعوام من ذلك الهدوء قرر ايهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أن ينسحب من الشريط الحدودي الذي تسيطر قواته عليه داخل لبنان. وأوضحت مبادرة دو شاريت أن من الممكن للبنانيين أن يحصلوا عما فشلوا في الحصول عليه خلال سنوات العنف من خلال عاملي الزمن والهدوء الذي تحقق بعد وقف إطلاق النار.

هل يمكن للتاريخ أن يكرر نفسه؟

على الرغم من أن مذبحة قانا هي تذكير بما جرى هناك قبل عشرة أعوام فإنه من المبكر معرفة ما سيترتب عليها. هناك مخاوف من أن يكرر التاريخ نفسه لكنه عادة يكرر نفسه في المرة الثانية حسبما قال ماركس ككاريكاتير.

فالعالم ليس كما كان عام 1996. فإسرائيل وحزب الله كلاهما لديهما أسلحة أقوى من السابق وكلاهما يجيدان تكتيكات التعامل فيما بينهما. والقادة العسكريون الإسرائيليون مصرون على إنهاء حزب الله مرة واحدة وإلى الأبد بينما قادة حزب الله هم أيضا مصممون على عدم الخسارة، فهم يستطيعون أن ينتصروا في هذه الجولة ضد إسرائيل بفضل الدعم الدولي خصوصا من أوروبا والحركة العالمية المعارضة للحرب.

وسورية تشعر بالمرارة تجاه الغرب وهي غير مستعدة لإحياء سياسة الرئيس الراحل حافظ الأسد الهادفة إلى جعل واشنطن راضية في كل الظروف.

والأكثر اهمية هو أن إيران لا تبدو مستعدة لأي نشاط دبلوماسي. فزعيمها الجديد الرئيس محمود أحمدي نجاد مقتنع بأن الغرب في حالة تراجع وحالما يغادر بوش البيت الأبيض سيهرب الأميركيون تاركين الجمهورية الإسلامية وحلفاءها يقررون شكل الشرق الأوسط.

وإذا برز وقف لإطلاق النار فإنه على الأكثر سيكون مؤقتا ضمن الصراع الأكبر الهادف لوضع اجندة للمنطقة لا كمقدمة لفترة هدوء تستمر عقدا على حدود البلدين.