إسرائيل وأميركا تدمران الجسور

TT

ما زالت إسرائيل مستمرة في غيها وعدوانها وتتخبط في تصريحاتها وتبريراتها، ربما لأنها أصيبت بوعكة صحية ـ مثل الوعكة التي أصابت رئيس أركان حرب جيشها، والتي ذكرتني بحالة الاضطراب التي أصابت بعض قادتها بعد الضربة الموجعة التي أصابها بها الجيش المصري في بداية حملته المظفرة في 6 أكتوبر 1973. ولست أقارن بالطبع بين الحدثين فطبيعتهما مختلفة وحجمها مختلف، ولكن في الحالتين تلقت إسرائيل – التي كانت تتباهى بأنها لا تهزم ـ ضربات، وإن اختلفت في حجمها فإنه كان من شأنها أن تجعل كل أولى الألباب يفيقون من غيهم. ولكن إسرائيل ليست منهم، فقد استمرت بعد حرب أكتوبر في أوهامها وتصورت أنها تستطيع أن تراوغ وتخدع، وان تبعد مصر عن محيطها العربي ففشلت في نهاية الأمر، وفي هذه المرة فإنها تصورت أيضا بدعم من الولايات المتحدة، أن تحدث الوقيعة داخل الشعب اللبناني وبين الدول العربية، بالربط بين أمور لا رابط بينها، ونشر الفتنة الطائفية على المستوى القومي، بعد أن أثبتت الولايات المتحدة في العراق قدرتها على إطلاقها من عقالها، في إطار بناء الشرق الأوسط الجديد، الذي يقوم على «ولايات» عربية ضعيفة ومتنافرة يسهل السيطرة عليها.

وقد رأينا إسرائيل تعلن ـ على لسان المتحدث الرسمي الأمريكي ـ وقف القصف لمدة 48 ساعة، ثم لا تنفذ هذا الإعلان، ورأيناها تكرر في قانا جريمتها البشعة التي ارتكبتها في 1996 من دون أن تعاقب، بل إن تقرير الأمم المتحدة عن تلك الحادثة، أدى إعلانه الذي أدانها إلى تصميم واشنطن على عدم التجديد للأمين العام للمتحدة حينئذ الدكتور بطرس غالي، لأنه تجرأ بإعلان جزء من الحقيقة. وشهدنا المجازر تقع على المدنيين الآمنين في أنحاء أخرى من لبنان، ويحرمون من الكهرباء والماء والغذاء وتضرب قوافل المساعدات.

وسمعنا ـ ورأينا ـ قرارات بتكثيف الهجمات البرية رغم ـ أو انتقاما من الاضطرار للانسحاب من بنت جبيل تحت ضغط المقاومة الشرسة.

لقد تجاوزت إسرائيل كل الخطوط الحمراء، وارتكبت كل الجرائم السوداء، كل ذلك والرئيس بوش ما زال يتحدث عن حقها في الدفاع عن نفسها. وكأنه اختار ألا يرى ولا يسمع ويكتفي بترديد كلام، لا يعبر إلا عن انحياز أعمى لإسرائيل يتنافى مع كل المبادئ التي كنا نتصور انها عزيزة على كل أمريكي. أما الآنسة كوندوليزا رايس، فبعد أن رفض لبنان استقبالها طالما ترفض وقف القتال الفوري غير المشروط، تظاهرت من فرط تأثرها بما جري في قانا، بأنها سوف تعمل على إقرار وقف إطلاق النار.

ولكن دموع التماسيح ما لبثت أن جفت فور وصولها إلى واشنطن لأسباب، لعل منها خلع القناع، ولعل منها الخضوع للجو العام في أوساط الحكم الأمريكي اليميني المتطرف العنصري، الذي يفتش باستمرار عما يرض إسرائيل أو لعله يتآمر معها تنفيذا لمخططات السيطرة والهيمنة. وإني واثق أن الشعب الأمريكي لا يمكن أن يساند مثل هذه المواقف المخزية، إذا أتيح له أن يدرك الحقيقة وهذه مسؤولية العرب، وليست فقط مسؤولية مجموعة الأمريكيين الشرفاء الذين يحاولون رفع أصواتهم بالحق ويدلون بشهاداتهم عما عاصروه وشاهدوه وعانوا منه من محاولات إسكات أصواتهم وضمائرهم بالتهديد والوعيد.

أما العالم العربي، فإذا كان في البداية قد تعرض لبلبلة أدت إلى بعض التردد، والى إثارة موضوعات ليس هذا أوان مناسبتها وجعلت الإسرائيليين يدعون بكل البجاحة، أن ما يأتونه من أثم يحظى ببعض التعاطف، هذا العالم العربي أدرك أن ما يصدر عن بعضه بحسن نية وبروح موضوعية تقصد الخير فتؤول إلى الشر، وأدرك انه كله بغير استثناء مستهدف بمخططات «الشرق الأوسط الجديد» الذي ذكرت كوندوليزا ـ لا فض فوها ـ أن مخاضه يحتاج إلى مزيد من سفك الدماء.

ومن هنا رأينا الشعوب العربية وحكوماتها تتخذ موقفا موحدا مع شعب لبنان ـ باعتباره في هذه المعركة طليعة للمقاومة ضد المخططات الجهنمية ـ ويطالب بوضع حد فوري للعدوان. ومن المهم أن تتحول تلك القضية العربية التي غذتها شجاعة الشعب اللبناني والانكسار الذي واجهته القوات الغازية، والذي يتمثل في صورة معبرة نشرتها في صفحتها الاولى وبحجم كبير جريدة مصرية يومية مستقلة (رغم محاولات البعض، ربما من باب الغيرة الصحفية، غير المبررة التقليل من مغزى تلك الصورة بل تشويهها)، أقول تلك القضية العربية يجب أن تترجم إلى مواقف سياسية عاقلة وفاعلة ومؤثرة، ومن هنا فلعله من المهم أن تنعقد قمة عربية تشاورية (أي بعيدا عن الكاميرات والميكروفونات)، تجمع كل الملوك والأمراء والرؤساء العرب ليناقشوا ويحللوا ويدرسوا الكروت التي تملكها الأمة العربية وأسلوب وتوقيت استخدامها. وهذا في رأيي معنى معاهدة الدفاع العربي المشترك، فهي ليست معاهدة للحرب ولكنها معاهدة تقضي بالتشاور عند الخطر لاتخاذ ما يلزم من إجراءات لمواجهته ـ ليس بالضرورة إجراءات عسكرية والدول العربية تملك من الوسائل السياسية والاقتصادية، ولديها من الأصدقاء في شتى أنحاء العالم بما فيه الولايات المتحدة ذاتها والدول العربية ـ حتى تلك التي اتخذت حكوماتها مواقف غير عادلة، من يمكن الإفادة من اقتناعهم بالحق والعدل.

وبينما نحن نواجه العدوان السافر في لبنان، فنحن لا ننسى أبدا الشعب الفلسطيني، الذي يستمر العدوان الإسرائيلي عليه متصورا أن الأنظار المتجهة شمالا، تتيح له أن يفعل جنوبا ما يشاء، وليس في شك في أن مسؤولية القادة الفلسطينيين هي أن يتجاوزوا أية خلافات بينهم ـ وهي على أية حال غير مبررة موضوعيا ـ وان يدركوا أن الخطر لا يهدد «ثورا أبيض وحده أو ثورا أحمر وحده»، وإنما يهدد الجميع.

وعودة إلى لبنان، فلا أستطيع أن اترك من دون تسجيل، أن فشل إسرائيل وخيبتها يتمثلان إنها في البداية طلبت أسبوعا لتكمل مهمتها القذرة، فأعطت واشنطن اولمرت المهلة، ثم اكتشف انه يحتاج لأكثر فأعطته الولايات المتحدة، وعاد الآن يقول انه يحتاج إلى أسبوعين على الأقل، ويبدو أن رصيده لدى واشنطن لا ينضب، فهي مستعدة لأن تترك له الحبل على الغارب للفترة التي يريدها من دون أن تدرك إنها بذلك تسمح بتدمير ليس فقط جسور لبنان، بل أيضا وقبل كل شيء الجسور التي كانت تدعي، أنها تأمل بناءها مع العالم العربي والإسلامي، خاصة وأنها وجدت الوقت مناسبا لجمع مجلس الأمن لإصدار قرار متسرع تجاه إيران، التي ما زالت تدرس العرض الغربي، واعدة بالرد عليه قبل نهاية الشهر (وهو قرار على أية حال فهمه كل من صوت معه بشكل مخالف لمفهوم الآخرين)، ولكنها لم تجد مناسبا أن تترك المجلس يدين قتل إسرائيل للمدنيين ومراقبي الأمم المتحدة، ويطالب بوقف إطلاق النار وإطفاء الحريق.