درس لبنان.. والحسم المؤجل

TT

كيف لنا أن نفسر حالة «الارتباك» والتشظي التي طالت مغلب التيارات الإسلامية على أرض الواقع إزاء ما يحدث في لبنان حيث ينتاب موقف معظم الأحزاب والتيارات والجماعات بل والتنظيمات الجهادية المتطرفة حالة من الانقسام لم تشهدها من قبل.

فالحالة اليوم تختلف وبشكل جذري عن الوضع إبان أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وقتذاك كان الانقسام بين فئتين، الأولى باركت غزوة منهاتن باعتبارها فعلاً «مقاوماً» لما اعتبرته غطرسة الولايات المتحدة تجاه قضايا العالم العربي وتبنيها لكل ما من شأنه حفظ ورعاية دولة إسرائيل، وكان على هذا الرأي مجمل التيارات والحركات الإسلامية وإن كان بعضهم قد تحفظ على موضوع استهداف الأبرياء أو أن المصلحة الشرعية تقتضي استثمار حالة السلم حتى يتم إعداد الأمة. الفئة الثانية وهم قلة من مفكري العالم الإسلامي ممن يدعون إلى الإسلام الحضاري ويغلب جانب الدعوة السلمية على أي عمل عنفي انطلاقاً من معايير متعلقة بفهمه الخاص وتأويله العصري للنصوص الدينية إضافة تأكيده على ضرورة الالتزام بالمواثيق الدولية العامة التي تحترم سيادة الدول وتمنع من الاعتداء عليها تحت أي مبرر.

اليوم الانشطار يطال المواقف السياسية الرسمية والنخب الثقافية وحركات المعارضة بكل أطيافها وتشكلاتها السياسية والدينية، وإذا كان الخلاف بين التوجهات السياسية للأنظمة العربية المختلفة في مصالحها وسياساتها الخارجية ومنطقها الخاص نحو مفهوم اتخاذ قرار الحرب والسلم والمقاومة والمفاوضات يبدو متفهماً ومبررا، فإن الذي يدعو للاستغراب هو أن تتولى كبر الذرائعية السياسية بكل فجاجتها وربما وقاحتها حركات تبدو طهورية ومبدئية في ما تطلقه من شعارات وأهداف معلنة تبدو مبنية على فكر ملتزم وثوابت عقائدية مطلقة!

يحدثنا درس لبنان بأن الطائفية البغيضة ما زالت رابضة بكل تفاصيلها وأن كل مجاملات «نجوم الطوائف» لبعضهم في الحوارات العامة تضمر كموناً طائفياً أكثر من كونها تعبر عن تسامح مبني على قناعات راسخة.. ولعل الجدل القائم الآن حول فتوى لعالم سعودي تهاجم حزب الله من منظور طائفي خالص، وما تبعها من سجالات متبادلة من الطرفين لتعزيز موقفه الطائفي وتبادل الاتهام ذاته وهو التآمر لهدم العقيدة أو هدم المقاومة! وكل حزب بما لديهم فرحون.

يحدثنا درس لبنان أن كثيراً من جماعات الإسلام المسيس لا تفكر أبعد من أرنبة أنف الإيدلوجيا، فمرة يمكن التعاطف مع الزرقاوي دون الاكتراث باستهدافه للمجتمعات الإسلامية أو حتى نفسه الطائفي البغيض كما لا يشعر هؤلاء بغضاضة في دعم موقف حزب الله واتهام من خطئه في افتعاله للأزمة بالتصهين والتأمرك والعمالة. اللافت في الأمر أن موقف جماعة كالإخوان المسلمين في سوريا وهم يشكلون معارضة للنظام السوري يناقض موقف الجماعة الأم كما كان الشأن في موقف إخوان الأردن أو الكويت إبان أزمة الخليج، كما كان الشأن ذاته حتى لتنظيم القاعدة وقت النزاع الذي اشتعل بين قادة الأحزاب الأفغانية السبعة والذين اختلفوا مع تيار الشيخ «جميل الرحمن» السلفي المدعوم من السلفية العلمية المتشددة والذين كانوا ينكرون على عبد الله عزام والقاعديين اختلاط الراية الجهادية وهم يعنون توحد الشيعة والسنة والصوفية والماتردية الافغان ضد الروس في «جهاد» واحد، وكان انصار جميل الرحمان يخالفون خط عزام ويرون أن أولوية العقيدة مقدمة على أولوية الجهاد، وهو الأمر الآن الذي يفسر لنا تردد موقف القاعدة وميلها إلى تقديم أولوية الجهاد كما ظهر في خطاب الظواهري الأخير.

درس لبنان يحدثنا أن استراتيجية الدول العربية وبدعم دولي سيكون تعزيز موضوعة «السيادة السياسية» على مستوى القرارات المصيرية وهذا ما سيلقي بظلاله الكثيفة على أحزاب المعارضة، فالسيادة الآن ووحدة القرار السياسي يجب أن تكونا مطلباً شعبياً لا إرادة سياسية ضيقة وحسب.

كما تصرخ فينا لبنان بصوت موجوع أن الديمقراطية كفكرة جميلة وإنسانية يمكن أن تصبح لعنة يستعر منها أكثر المؤمنين بها حين تصبح عذراً ممجوجاً للانحياز اللاديمقراطي من دولة الديمقراطية الكبرى في العالم حتى أكثر الناس إيماناً بجدوى الليبرالية أو إيجابيات العولمة يمكن أن يتقزموا أمام سلوك كهذا.

الأهم في الحالة اللبنانية مما قد يعد أمراً إيجابياً في خضم كل هذه المآسي البشرية في الأرواح وفي الأفكار والقناعات أيضاً أنها ستعطي الكثير من النخب الثقافية الواعية مناعة قوية ضد الشعارات القومية والإسلاموية وضد الأوهام التي يسوق لها المؤدلجون الذين بدا واضحاً أنهم لا يهتمون إلا بمكاسبهم الضيقة مستغلين حالة التفتت السياسي هذه، متكئين على صلف وعنجهية إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة في ظل ارتباك الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن.

الأمل الذي يمكن الرهان عليه هو هذا النمو المتسارع للضمير الكوني والوعي العالمي متمثلاً في أعداد كبيرة من المثقفين والتكنوقراط والمؤمنين بالسلام في المجتمعات الغربية كما هو الحال في شرائح صغيرة في طور التشكل في العالم العربي حيث أدرك الجميع الآن أن درس لبنان يجب أن لا يتجاوز بسهولة دون حسم لكثير من القناعات المؤجلة.

[email protected]