العبقرية التي اكتسبت

TT

كتبت منذ سنتين في جريدة «الاقتصادية» السعودية مقالة بعنوان «العبقرية التي فقدت» وضحت فيها قناعتي بأن عبقرية التنمية في المملكة ونجاحها الباهر أتى من عفويتها الذكية وتلقائيتها المتبصرة. اذ تتابعت خطواتها بهدوء وثقة توجهها ملكات الفهم العملية لدينا وتدفع مسيرتها النتائج الناجحة، فتحددت وتيرتها ومساراتها المختلفة على هذا الاساس.

هذا الجهد التنموي الرائع الذي نرى تبدياته العديدة في مختلف جوانب الحياة بدأ من غير تدخلات من اصحاب الابراج العاجية من المثقفين والمتخصصين لانه لم يكن هناك هذا الصنف من الخلق بعد، واستمر لزمن على هذا المنحى. نعم استفادت الخطوات التنموية من تجارب امم اخرى، ولكنها لم تنسحر بالجوانب التنظيرية الخارجية بل تأثرت بالفوائد العملية لتلك التجارب. حتى عندما وجد المثقفون والمتخصصون فقد كانوا في العدد قلة وكان لدى قادة هذه التنمية الثقة في نفاذ بصائرهم وقوة ذكائهم وفوائد تجاربهم بحيث استمروا في تحديد المسارات وتركوا لهؤلاء المتخصصين تنفيذ التفاصيل.

استحضرت ما قلته آنذاك وانا اقرأ عن القرار الطموح لملك الاصلاح وعبقري التطوير عبد الله بن عبد العزيز لتأسيس جامعة عالمية المستوى للعلوم والتقنية. فهو حفظه الله وعى بثاقب بصيرته وعفويته المحنكة الحاجة الملحة لمثل هذه المؤسسة ليس فقط لهذه البلاد، بل للعالمين العربي والاسلامي، لانه حفظه الله اراد بها وسيلة تمكننا من اللحاق بالامم المتقدمة. ومن ثم أتى قراره الحكيم ليس فقط بتأسيس هذه الجامعة، بل ايضا بالصرف عليها بما يمكنها من ان تقف شامخة في طموحاتها وفي اهدافها. وكما ادرك الملك فيصل رحمه الله عندما انكب على تنظيم الدولة، الحاجة الملحة الى خلق اكثر من تجربة تنظيمية لأن المهمات الملقاة على كاهل الدولة متنوعة، فإن الملك عبد الله حفظه الله، ادرك على نحو مماثل الحاجة الى خلق تنوع في مؤسسات التعليم العالي يتوافق والتنوع في المهمات الملقاة على عائق تلك المؤسسات، خصوصا الجامعات. وإذا كانت الجامعات الحالية ركزت على جانب واحد من مهامها المتعددة، وهو تخريج المؤهلين في التخصصات المختلفة، فانها فعلت ذلك على حساب مهمات ضرورية اخرى مثل الابداع في البحث العلمي والتميز في التخصصات التقنية. كما ان الجامعات اصبحت تعاني من تعنت بيروقراطي كبلها وعرقل مسيرتها الابداعية وجعلها مدارس للتأهيل وليس منارات للابداع. لهذا وذاك أتى هذا القرار الحكيم من الملك المفدى بتأسيس هذه الجامعة التي تظهر المؤشرات الاولية انها ستكون عالمية من حيث التنظيم والمستوى (انظر مقال الامير فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود في جريدة «عكاظ» في 28/6/1427هـ)، ومن ثم تحقق حلمه حفظه الله في ان تضع هذه الجامعة المملكة في مصاف الدول المتقدمة في العلوم والتقنية. واذا اريد لهذه الجامعة التألق المستمر، فإن من الضروري وضع التنظيم الذي يحميها من زحف البيروقراطية والروتين بحيث تنمذج نفسها على غرار الجامعات العالمية مثل معهد كاليفورنيا للتقنية او معهد ماساشوست للتقنية.

هذه القرارات الطموحة تتوالى من الملك المفدى يوما بعد آخر، لتعلن اننا نعيش عصرا جديدا تقفز فيه البلاد قفزات كبيرة في مسيرة الاصلاح والتطور. وقد سبق قرار انشاء هذه الجامعة التقنية قرارات جذرية اخرى منه حفظه الله لاعادة تنظيم التعليم بكامله بما في ذلك الجامعات. وينظر مجلس الشورى الآن في الانظمة الجديدة نظرة متفحصة مستلهما الرغبات الطموحة للقيادة الحكيمة في تطوير التعليم العام والعالي، واحسب ان المجلس سيخرج انظمة تحمي الجامعات من التنميط البيروقراطي وتحقق لها القدرة على الابداع.

* كاتب واقتصادي سعودي