سلام عليك

TT

تعني الحروب بالنسبة إليّ ما يعنيه السلم. أمر واحد لا سواه ولا عداه. الناس. الأطفال والنساء والعجائز والرجال والشبان. القتلى والجرحى والمشردون، الذين عثروا على مدفن والذين عثروا على مستشفى والذين عثروا على طعام ومياه ومأوى. في مدرسة أو في ملعب بلدي أو عند جار أو عند غريب. طوال الأسابيع الماضية وأنا أتطلع في الناس. مئات البيوت تهوي على رؤوسهم. ومئات الجثث لا تجد من يدفنها. وآلاف الجرحى ينزفون بلا ضمادات. وعشرات الآلاف من البشر يتركون خلفهم بيوتهم وهناءهم واستقرارهم ويرتمون في المجهول، لاجئين مختلفي الطبقات، ومن مصيبة واحدة.

ليس هناك لبناني ليست له مشكلة. أو قضية. أو مأساة. والفرق في التفاوت. وفي الأحجام. وسعيدة هي العائلات التي أبادتها إسرائيل عن بكرة أبيها. فلم يبق منها من سيمضي بقية العمر في الحزن والفقدان وشعور العجز المطلق أمام هول المصيبة وفداحة المصاب.

أصعب الموت، هو الموت الطائش، بلا شهادة، ولا بلا اسم. وأقسى الجروح أن يقال لمصاب، تدبر نفسك كيفما اتفق، فإن غيرك في خطر. وأفظع المصائب ألا تبدو مصيبتك تستحق الذكر أمام مصاب سواك. الحرب تجردك فورا من صفة الفردية وتمنعك من الحق في الألم. فالأولوية للجماعة. والجماعة لا تئن ولا تتألم ولا يقتلها الخوف والجوع والقلق وجور الأيام وظلم العدو وجور القريب.

تقول العامة «الجرح لا يوجع إلا في موضعه». وجرح الأمة كبير، وكلما داوت منها جرحا سال جرح. وما زلت لا أدري لماذا كلما أرادت إسرائيل أن تقاتل فريقا، سعت إلى تدمير لبنان. ولماذا كل عقدين هجرة لبنانية جماعية إلى الخارج ونزوح مرعب في الداخل. ولماذا دائما حجم العقاب يفوق مليون مرة حجم الذريعة. العام 1982 مزقت أوصال لبنان لأن «أبو نضال» حاول اغتيال سفير إسرائيل أمام الدورشستر في لندن. والآن تمزق لبنان بسبب جنديين أسيرين من دولة عندها 20 ألف أسير. وبدل أن تقاتل المقاتلين تذهب فورا إلى أعناق الرهائن. وفي لبنان تذهب إلى عنق الاقتصاد وشرايينه وأوصاله. انه النموذج الذي تكرهه أولا وأخيرا. وربما لا يطيقه عرب كثيرون أيضا. بلد صغير يقوم من الحروب والمآسي كالعفاريت. ووطن بلا موارد أو ثروات يتمتع بأرفع مستوى معيشة وأرفع دخل قومي.

بلد قال له العرب أنت سائب لأنك لم تحارب. فأصبح طليعة المحاربين وطليعة المقاتلين وطليعة الشهداء وطليعة الضحايا. وسوف يبقى. ولذلك تريده إسرائيل ميتا وبلا رجاء. ويريده بعض العرب مقطعا وبلا حرية. ويحرصون على المشي في جنازته شرط أن يموت. ولكنه مثل زكريا. يصمت ثلاثة أيام وثلاث ليال ثم سلام عليه يوم يموت ويوم يبعث حيا.