أغني لهم أحياناً

TT

لست قديساً ولا مثالياً ولا أستطيع أن (أجيب الديب من ديله)، ولا، ولا ولا تتلبسني ولا البس أية صفة من صفات الوقار الحميدة، أقول ذلك لا عن كذب أو رياء أو تزلف أو تواضع، ولكنها هي الحقيقة الفاقعة التي لا أستطيع أن اهرب منها.. والغريب انه رغم أنني لا احمل أية صفة من هذه الصفات المفتخرة، إلا أنني في نفس الوقت لست ظالماً للآخرين رغم ظلمي لنفسي أحياناً، ولست بطراناً لأنه لا شيء عندي أتبطر به، ولست جاحداً لمن مد لي يوماً يده، لكي يقل عثرتي أو يمسح دمعتي.

انظر للناس مثلما انظر للكائنات جميعاً، أتأملهم والمس الحياة والموت في كل خلية من خلاياهم، واعلم أنهم أتوا إلى هذه الدنيا وكل واحد منهم، وحيداً وغريباً، لا يفقه البداية، ولا يدري عن النهاية، رغم تهافته وأكله وصراعه وأمله وضحكه وبكائه وتناسله وغرامه ورعبه ونعاسه وتدثره بالملابس والتعاليم والخرافات والأشواق والأساطير.

الذي دعاني اليوم إلى ما يشبه (النواح) هذا، هو ما وقفت عليه من مأساة، ورغم انني عودتكم دائماً على (افترار الثغر) بقدر ما أستطيع، ورغم انني أحاول أن أشعل إصبعي أو قلمي أو مهجتي كشمعة تضيء في أي ظلام أو نهار ـ لا يهم المهم أنها تضيء، حتى لو في جحر فأر ـ، رغم ذلك كله فإنني اليوم أريد أن أطفئ تلك الشمعة واكتب بالعتمة، لأنني والله حزين.

فقبل عدة أيام، وعندما هممت بالخروج من باب منزلي إلى الشارع، وإذا بقطة هزيلة واقفة أمامي تموء في وجهي بصوت خافت مبحوح، حاولت أن أتجاوزها غير أنها وقفت في طريقي مركزة نظراتها بعيني، فتيقنت أنها جائعة، فدخلت إلى المنزل وسكبت قليلاً من الحليب مع قطعة جبن في صحن صغير، وعندما رجعت وجدتها واقفة في مكانها وكأنها تنتظرني، وضعت الصحن أمامها، غير أنني تعجبت أنها لم تأكل منه رغم أنني أستطيع أن اعد أضلعها من شدة الضعف، وفجأة أدارت لي ظهرها وقطعت الشارع بالعرض ثم توقفت والتفتت ناحيتي، وكأنها تقول لي: تعال واتبعني، نظرت إلى عينيها المركزتين على عيني، فقلت لها لا شعورياً وكأنها تفهم لغتي: (حاضر)، وتبعتها فعلاً، وإذا بها تقودني إلى حديقة مهجورة، ثم توقفت بين مجموعة من الأخشاب، وإذا بي أشاهد ثلاث قطط حديثة الولادة مخبوءة، فتعجبت من ذلك، حيث أن أية قطة حديثة الولادة لا تطيق في العادة أحدا أن يشاهد صغارها، تركتها مع صغارها وذهبت إلى شغلي.

غير أنني أخذت أفكر بالقطة وصغارها قبل أن أنام، ولم اصدق إلا أن شمس الصباح تشرق، فذهبت إلى مكانها، وكانت المفاجأة التي كادت تصيب قلبي بالعطب، عندما شاهدت القطة الأم جثة هامدة، وجسدها البارد ملقى بجوار صغارها الذين يحاولون التكالب على رضاعتها، ولكن لا حليب.

ولقد أحسست أن تلك القطة شعرت بقرب منيتها وأرادت أن تستنجد بأي أحد لكي يضمن أو يحوط صغارها بعنايته، وهذا هو ما كان فعلاً.

فأولاً حفرت للقطة الأم ودفنتها بيدي بكل احترام، وأخذت الأيتام الثلاثة وتبنيتهم، وما زالوا أطفالاً أبرياء، هوايتهم الوحيدة هي اللعب، كلما شاهدوني اخذوا يلعقون يدي، ويتمسحون بأقدامي بكل ود وكبرياء، وأنا من شغفي بهم أغني لهم أحياناً.

[email protected]