حديث رايس: تكريس قديم لإدارة بوش بمفهوم جديد!

TT

جاء حديث وزيرة الخارجية الأمريكية رايس عن «شرق أوسط جديد تتبدى آلام مخاضه اليوم في لبنان»، ليدلل مجدداً على الإشكاليات الكبرى لاقتراب إدارة الرئيس بوش الابن من العالم العربي.

بداية، اعتادت هذه الإدارة الطرح العلني لرؤاها وخططها المستقبلية بشأن الشرق الأوسط في لحظات صادمة للعرب، حكومات ومعارضة، نخبا ليبرالية وحركات إسلامية. واكب غزو العراق واحتلال بغداد صياغة مبادرة الشراكة الشرق أوسطية، ثم مبادرة الشرق الأوسط الكبير لدعم التحول نحو الديمقراطية والحرية في المجتمعات العربية. وبغض النظر عن اختلافنا آنذاك في قراءة النوايا والأهداف الكامنة وراء هاتين المبادرتين، لم يكن في استطاعة أي سياسي أو ناشط أو مثقف عربي وبمعزل عن الاصطفافات الآيديولوجية في عالمنا، سوى أن يرفضها باعتبارها حلقات جديدة في مسلسل فرض الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط وتركيع الإرادة العربية. اليوم تأتي رايس في سياق هجمة إسرائيلية وحشية على لبنان تنفذ بموافقة واشنطن وحمايتها لتبشر بشرق أوسط جديد ثم تتعجب من إجماع العرب، بمن فيهم حلفاء الولايات المتحدة من حكومات صديقة ونخب ليبرالية، على التنديد بتقديم دم الأبرياء في قانا وصور وبيروت قرباناً للمصالح الأمريكية والإسرائيلية. أساءت إدارة بوش الابن في الماضي القريب لهدف التحول الديمقراطي عربياً باختزاله إبان غزو العراق في قلب نظم الحكم المعادية، ثم بأخطائها اللانهائية في عراق ما بعد صدام، وهي الآن تستبيح بحديثها عن شرق أوسط جديد أمل التغيير لتجرده من مصداقيته وتفسد قدرته على رسم ملامح مستقبل أفضل في مخيلة مواطنين عرب سئموا لاإنسانية الآلة العسكرية الإسرائيلية وبشاعة التواطؤ الأمريكي.

من جهة ثانية، تحول القناعات الآيديولوجية لساكن البيت الأبيض ولعدد من رموز إداراته، من دون إدراك تعقد وتشابك صراعات الشرق الأوسط، وتدفع دوماً باتجاه اختزالي وأحادي خطير. حينما يشدد الرئيس بوش مراراً، بل وفي أعقاب مذبحة قانا، على أن ما يجري اليوم في لبنان إنما هو بمثابة جزء من الحرب العالمية بين الحرية والإرهاب وبالتبعية صراع جوهري بين الخير والشر سينتهي قطعاً بانتصار الأول، فهو يؤمن بكل كلمة ينطق بها ويصيغ توجهات إدارته في إطار هذه الصور التبسيطية المعبأة برمزية دينية خلاصية. يتمثل هاجس بوش الأساسي في حتمية وقوف الولايات المتحدة في معسكر الخير والدفاع عن إسرائيل رافعة لوائه إزاء خطر إرهابيي حزب الله. ليس هنا لحقائق من شاكلة الجذور التاريخية للصراع بين إسرائيل ولبنان وتداخل معايير الخير والشر على مدار عقود من المواجهات المتتالية أو لتفاصيل واقعية تتعلق إن بمحورية أدوار حزب الله المجتمعية والسياسية في الداخل اللبناني أو تدميرية العدوان الإسرائيلي الآني وتهديده لاستقرار حكومة السنيورة القريبة من واشنطن أن تخترق جدار الصد الآيديولوجي حول بوش، وتتساقط الواحدة تلو الأخرى إزاء إيمانه الأصولي بحتمية النصر النهائي لقوى الخير وبروز شرق أوسط جديد. لا تملك أيضاً تلك الأصوات من داخل إدارة بوش المتحفظة على اختزاليته الآيديولوجية، وجلها مسموع في أروقة الخارجية الأمريكية، أن تنفذ بقوة إلى الدائرة الضيقة لصنع القرار ولا يبقى لها سوى الانصياع أو الانسحاب.

تتسم إدارة بوش على صعيد ثالث، وهنا يبدو مكونها الواقعي العاشق لقوة الولايات المتحدة والراغب في توظيف أدواتها بكثافة تعظيماً للمصلحة الوطنية، باندفاعها المغامر للتعامل مع المستجدات العالمية أو الإقليمية كفرص إستراتيجية سانحة إما لتثبيت دعائم الهيمنة الأمريكية أو محاولة مد شبكاتها من خلال صياغة حقائق جديدة على الأرض، ودونما اعتبار للشرعية الدولية أو للكلفة المادية والإنسانية المرتبطة بذلك. هكذا تعاطت الإدارة مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 بإطلاق حرب عالمية على الإرهاب، هدفت بالتأكيد لإسقاط حكم الطالبان في أفغانستان وشل القاعدة، إلا أنها تخطتهما لتغيير الجغرافيا السياسية في آسيا الوسطى والجوار الإيراني والضغط على نظم الحكم المناوئة للمصالح الأمريكية في العالم العربي والإسلامي. طبق ذات المنهج حيال الملف العراقي بتدخل عسكري أسقط نظام صدام حسين وأراد، وإن أخفق، خلق عراق جديد يغير خريطة الشرق الأوسط. اليوم في الحرب الإسرائيلية على لبنان ترى إدارة بوش فرصة إستراتيجية سانحة من جهة لإعادة صياغة قواعد اللعبة السياسية في الداخل اللبناني، باستبعاد كامل أو جزئي لسلاح حزب الله من معادلة القوة، وبالتبعية تمكين الأطراف اللبنانية الأقرب إلى الولايات المتحدة أو الأقل تهديداً لمصالحها من تحجيم نفوذ الحزب ومحاصرته. تسعى الإدارة من جهة أخرى، ولا شك أن هذا هو العامل الأهم في تفسير الموقف الأمريكي وفهم مضامين الحديث عن الشرق الأوسط الجديد، إلى تغيير علاقات القوة بين المحاور الإقليمية على نحو يخصم من الرصيد الإستراتيجي لإيران وسورية بحرق ورقة حزب الله ويسمح باحتواء النفوذ المتزايد لنظام الجمهورية الإسلامية، الرابح الأكبر من مغامرة بوش في العراق. لواشنطن إذن في تماهيها مع أهداف تل أبيب منطقها وحساباتها الخاصة وليس في رفضها المتكرر لوقف فوري لإطلاق النار سوى إشارة جلية الى رغبتها في إنجاز «المهمة» قبل أن تصمت المدافع ويتوارى أزيز الطائرات.

أخيراً، يدلل اندفاع رايس في التبشير بشرق أوسط جديد على وضعية التأزم الفعلية التي وصلت لها سياسات إدارة بوش في اللحظة الراهنة. ورطت هذه الإدارة الولايات المتحدة في ثلاثة مشاريع كبرى، رامت مجتمعة تغيير وجه العالم العربي، وفشلت حتى يومنا هذا في إنجاز أي منها. فالحرب على الإرهاب، وعلى الرغم من نجاحاتها الأولية، أفقدت الولايات المتحدة قدراً كبيراً من المصداقية الأخلاقية، بحكم تجاهل إدارة بوش المستمر للقانون والأعراف الدولية، وما زالت بعيدة عن الاستئصال الجذري لظاهرة لا يرتب اختزالها في المركب الأمني وتجاهل الأبعاد المجتمعية سوى إعادة إنتاجها بصور متجددة أخطر من سابقاتها. كذلك لم يتحول العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين لا إلى نزهة استعمارية هادئة ولا إلى منارة الديمقراطية الناشرة لضيائها في ربوع المشرق العربي وعلى ضفاف الخليج. أما مشروع دعم الديمقراطية والحرية عربياً فولد يتيماً لتردد الإدارة في تحديد أهميته الإستراتيجية إذا ما قورن بالمصالح الأمريكية الأخرى من هيمنة ونفط وأمن إسرائيل ولافتقاده آليات تنفيذ واقعية في ظل علاقات التحالف بين الولايات المتحدة ومعظم النظم السلطوية الحاكمة. ثم استحال التردد الأمريكي فيما يتعلق بدعم الديمقراطية خوفاً مع تصاعد الوزن السياسي للتيارات الإسلامية وانكشاف هشاشة النخب الليبرالية في جل الانتخابات العربية فارضاً حالة بادية من الجمود على سياسات إدارة بوش في هذا المجال. بعبارة بديلة، تبدو الولايات المتحدة اليوم قبيل عام ونيف على انتهاء ولاية بوش الثانية منهكة القوى مستهلكة الأفكار مفتقدة المصداقية على نحو يهدد جدياً دورها ومصالحها في الشرق الأوسط.

قفزة رايس على عذابات لبنان الجريح للتبشير بشرق أوسط جديد هي إذن محاولة للبحث عن طوق نجاة ينتشل السياسة الأمريكية ولو لحظة من دوامات الفشل المتتالية وينعش إيمان الآيديولوجيين وتفاؤل الواقعيين في إدارة بوش بقدرة الولايات المتحدة على تخليق رؤية كليانية جديدة لعالمنا تجمع في قالب واحد مفردات الحرب على الإرهاب والانتصار للحرية والتخلص من القوى المناوئة. أخطأ العرب في رؤية أنفسهم في موضع المخاطب المستهدف من تبشير رايس فالمعني هو إدارة بوش بدايةً وحصراً، ونخطئ أكثر إن اعتبرناه علامة تحول فارقة. فجديد رايس ينطلق من قديم إدارة بوش ويكرس سياساتها بتدويرها في سياق مفاهيمي مغاير.

* باحث مصري بمؤسسة كارنيجي للسلام العالمي بواشنطن.