خيبة أمل إسرائيلية وأميركية

TT

استطاعت مجزرة قانا أن تهز الضمير العالمي، وأن تدفع مجموعة من دول العالم الكبيرة والصغيرة إلى المطالبة بوقف عدوان إسرائيل على لبنان من خلال وقف فوري لإطلاق النار. ولكن مجزرة قانا لم تستطع أن تهز الضمير الأميركي، فاستمرت تطالب باتفاق سياسي كشرط لوقف إطلاق النار، بمعنى آخر تريد الولايات المتحدة الأميركية اتفاقا سياسيا تحت تهديد القصف والعدوان، لأنها ترى في العدوان الإسرائيلي التدميري الهمجي دفاعا مشروعا عن النفس، وترى في دفاع حزب الله عن لبنان إرهابا واعتداء على دولة ذات سيادة. والاتفاق السياسي حسب هذه القاعدة يعني قرارا بضرب حزب الله، ونزع سلاحه، والحفاظ على حق إسرائيل في العدوان والتدمير، وذلك عبر قوات دولية مكلفة بهذه المهمة.

لقد بات الكل يعرف أن إسرائيل شنت حربها على لبنان من أجل نزع سلاح حزب الله، ولكنها فشلت في ذلك بعد ثلاثة اسابيع من القتال، وبات الكل يعرف أن الولايات المتحدة تريد أن تحقق لإسرائيل بالسياسة ما عجزت عن الحصول عليه بالحرب، بمعنى آخر، إن الولايات المتحدة تريد استقدام قوات دولية إلى لبنان تواصل المعركة بدلا من الجيش الاسرائيلي، تفعل ذلك وهي تعرف أن دولا كثيرة حليفة لها (فرنسا وغيرها) تعارض هذا الطلب، لأنه لا توجد دولة في العالم توافق على إرسال جنودها ليخوضوا حربا بالوكالة لصالح دولة أخرى. وتفعل الولايات المتحدة ذلك وهي تعرف أن قرارا من هذا النوع لن يؤدي إلى نزع سلاح حزب الله بل سيؤدي إلى إثارة حرب أهلية جديدة في لبنان، وبدلا من معالجة مشكلة قائمة ينفتح الباب أمام مشكلة جديدة، ويبقى المعتدي الإسرائيلي بريئا من كل جرائمه.

الفشل الإسرائيلي أصبح حديث الإسرائيليين أنفسهم، وتكفي نظرة سريعة على ما يقوله الكتاب الإسرائيليون في الصحف، وبالرغم من أوامر التعتيم الإعلامي التي فرضها الجيش، للتأكد من هذا الفشل.

المعلق العسكري زئيف شيف، والمقرب من قيادة الجيش كتب يقول «لا مهرب من التوصل إلى نتيجة مفادها إن الإدارة الاستراتيجية للحرب هي حتى الآن غدارة فاشلة، والإثباتان البارزان على هذه الإدارة الفاشلة هما أن القوات البرية لم تسهم عمليا في ايقاف حرب الاستنزاف... ومن غير الواضح أيضا أية قوة دولية ستكون في لبنان».

ويقول الكاتب أمير اورن «إن ما حصل مع الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب هو واحدة من القصص الكبرى الغامضة والحزينة في تاريخ دولة إسرائيل. فعلى الورق وخلال التدريبات يبدو كل شيء واعدا، لكن في الميدان فإن هذا الوعد يتلاشى، تماما مثل منتخب البرازيل في المونديال. إن قيادة المنطقة الشمالية العسكرية أصيبت بصدمة الحرب، وهو ما يطلق عليه اسم عارض بنت جبيل».

وبعد أن القى ايهود اولمرت رئيس الوزراء خطابا بونابرتيا تحدث فيه عن نصر إسرائيل، كتب ألوف بن يسخر منه ويقول «إنه يسعى لأن يجعل من تفويت الفرصة شعورا بالنصر»، وقال: «إن ما ينقص إسرائيل في هذه الحرب هو صورة انتصار، والصورة هي جنود القوة الدولية الذين سينتشرون عند الحدود». ويقول عمير ربابورت «الآن أصبح واضحا خلافا لأي شك، بأن حزب الله لن يدمر في هذه الحرب، لكن الولايات المتحدة ستهتم في مجلس الأمن بإتاحة المزيد من الوقت أمام إسرائيل».

وكتب الإسرائيليون ايضا حول هذه العلاقة الفريدة بين إسرائيل وأميركا، ولكنهم كتبوا عنها تحت شعار خيبة الأمل، خيبة الأمل الأميركية من إسرائيل. كتب زئيف شيف يصف الوضع قائلا «ليس الأميركيون هم الذين خيبوا أمل إسرائيل، وإنما إسرائيل هي التي خيبت أمل أميركا من ناحية استراتيجية، عندما لم تفلح في أن تزود الإدارة الأميركية بأوراق عسكرية». ووصف أمير اورن الوضع بين الطرفين بقوله «ثمة من يطلب إذنا وثمة من يصادق، ثمة من يثير توقعات وثمة من يخيب الأمل..... والرئيس جورج بوش خائب الأمل، لم يتصور بينه وبين نفسه أن الجيش الإسرائيلي هو على هذا النحو، لقد تصور الجيش الإسرائيلي دائما كجيش شديد القوة والعزم، جيش طافح بالسلاح الأميركي».

إن خيبة الأمل هذه، خيبة أمل إسرائيل من نفسها، وخيبة أمل الولايات المتحدة من جيش إسرائيل، ستكون لها انعكاسات عديدة في المستقبل القريب، فإسرائيل لم تعد بعد الآن القوة التي لا تقهر، وهي تؤمن بان بقاءها مرهون بكونها قوة لا تقهر، وهذا ما يعبر عنه كبار المسؤولين الإسرائيليين حين يقولون: إن إسرائيل تخوض حرب حياة أو موت (شيمعون بيريس)، وهذا ايضا ما يعبر عنه كبار المسؤولين الإسرائيليين حين يقولون إن إسرائيل لا تتحمل خسارة معركة واحدة. ولا يعني هذا أن إسرائيل ستزول أو تتلاشى بسبب هذه الحرب، بل يعني أن صورتها ودورها الذي رسم لها كدولة مهيمنة مسيطرة لا تقهر، سيدخل عليه تغيير كبير. الصورة ستهتز، والدور (المهمة) لن يبقى صالحا. ولا شك أن هذا سيغير من نظرة إسرائيل إلى نفسها، كما سيغير من أسلوب تعامل الحليف الأكبر معها.

أما بالنسبة للولايات المتحدة، وسواء كانت تسعى إلى الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، فإن النتائج على الأرض تبلور لها نكسة جديدة تضاف إلى نكساتها في أفغانستان والعراق وفلسطين، وكلها نكسات تقود إلى فشل أميركي كامل يصيب مغامرتها الكبرى، مغامرة «الفوضى الخلاقة»، لأنها في النهاية فوضى تجلب الدمار للشعوب، والكره والعداء للولايات المتحدة، والفشل والضعف لحلفائها، وسينعكس هذا كله مباشرة على وزن أميركا الدولي، كما سينعكس على الوضع الداخلي، وربما يهز عرش الجمهوريين فاتحا الطريق أمام عودة الديمقراطيين إلى الحكم، حتى أن هناك من يقول إن مغامرة الجيش الإسرائيلي في لبنان إنما نظمت في هذا الوقت بالذات، وقبل أربعة أشهر من الانتخابات النصفية، من أجل تقديم نصر سياسي يخدم الجمهوريين في معركتهم الانتخابية. وهناك من يقول أيضا إن العناد الذي يظهره المندوب الأميركي في مجلس الأمن ضد قرار وقف إطلاق النار، ومن أجل تحقيق نصر سياسي لإسرائيل يعوض هشاشة الإنجاز العسكري، هو ايضا من أجل هذه الانتخابات النصفية.

ولا بد من أن نلاحظ هنا ثلاثة تغيرات أساسية تبلورت في أسابيع الحرب الثلاثة:

التغير الأول لبناني: فقد بدأ العدوان الإسرائيلي على لبنان، وسط تجاذب سياسي داخلي معاد لحزب الله، ولكن الأمور تطورت باتجاه وحدة سياسية حكومية وشعبية ودينية، تبلورت في خطة رئيس الوزراء وتأييد الجميع لها.

التغير الثاني عربي: فقد بدأ العدوان الإسرائيلي على لبنان، وسط خلاف عربي حول قضية التوريط والتشاور، وانتهى بموقف عربي موحد داعم للبنان، وللمقاومة، ولخطة الحكومة اللبنانية، وبالرغم من كل ما يقال حول التخاذل الرسمي العربي.

التغير الثالث دولي: فبعد فترة من التماهي الأوروبي مع السياسة الأميركية، تبرز من داخل اوروبا أصوات معارضة، ترفض الخطط الأميركية، وترفض الانصياع لها، وتصر على وقف إطلاق النار أولا، لإنهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان.

وتتناقض هذه التغيرات الثلاثة، مع كل ما تخطط له الولايات المتحدة،.. ولكن المعركة ما تزال مستمرة؟