«السوري» كان أرمنيا: بلد الهجرات والمهاجرين

TT

شتاء العام 1961، في باريس، والدنيا شباب وشعر وأدب وحب وحنين، قرأت في مجلة أميركية أدبية مقالا عنوانه «الجرس»، بقلم «غي دو موباسان»، لوليم سارويان. كانت أول مرة اسمع باسم الكاتب الاميركي الأرمني. ويروي صاحب مسرحية «الكوميديا الإنسانية» كيف كان بائع صحف في فرسنو، كاليفورنيا. وكان في الليل يقرأ الكتب التي استطاع شراءها. وعندما قرأ رواية «الجرس» لموباسان، قرر انه سيكون كاتبا. ورمى الصحف جانبا وجلس يكتب. وأنا رميت مقال سارويان جانبا، ورحت ابحث عن كتبه، ومنها «اسمي أرام» و«الكوميديا» وقصص قصيرة، وترجمت معظمها إلى العربية.

بين القصص القصيرة كانت واحدة بعنوان «السوري». وكانت حكاية رجل حاذق، شاطر، مغامر، واحتيالي لكن دون ضرر أو أذى. مثلا، استطاع أن يتهرب من الجندية في الحرب العالمية الأولى. ولكنه أمضى السنوات يتحدث عن مغامراته في الحرب وبطولاته في الاشتباكات. وكان يقترض من صديق ويسدد لآخر. ويرتدي أجمل الثياب ثم يتهرب من الخياطين. وافتح قوسين لأروي حكاية «الصحافي التائه» اسكندر الرياشي، من ظرفاء لبنان. فقد ذهب مرة إلى اشهر خياط في بيروت وأوصى على بذلة. ثم سأل عن السعر فقال الخياط انه 200 ليرة. فاعترض اسكندر مساوما: «ما بدفع إلا 150». فقال الخياط «لماذا المجادلة يا اسكندر، فأنت لن تدفع في أي حال». فقال اسكندر «طبعا لن ادفع ولكن أريد أن اخفف عليك المصيبة».

بقيت حائرا في أمر «السوري». فالمعروف أن جميع المهاجرين إلى أميركا في تلك المرحلة كانوا يسمون «سوريين». وقلت في نفسي إن هذه الشخصية لبنانية بلا منازع. وكان أهل قريتي يتداولون حكايات كثيرة عن مهاجر من هذا النوع. وقد أثرى من المخالفات الصغيرة والصفقات غير المؤذية. وذات مرة كان يحاكم في ميشيغان بسبب تراكم مخالفات السير عليه، عندما دخلت أو اقتحمت فرقة من الشرطة المحكمة وأصوات الزمامير تسمع من الخارج. وسأل القاضي ما الأمر، فقال الضابط إن سيارة ضخمة تسد الطريق أمام باب المحكمة. فنظر القاضي إلى المتهم وسأله، هل هي سيارتك؟ فأحنى رأسه بخجل وقال: «هل يعقل سيادتك، أن تكون لأحد آخر؟».

كيف لي أن أعرف إن كان «السوري» الساحر في قصة سارويان، لبنانيا أم سوريا؟ لم أكن أتوقع طبعا أن التقي ذات يوم الكاتب الذي يعيش في أميركا. لكن في أوائل السبعينات دعت الجمعية الأرمنية الرجل ذا الشاربين الطويلين إلى بيروت. وكرمته المؤسسات الأدبية. وفي إحدى هذه الحفلات كنت بين المدعوين. وأخبرت الرجل الضاحك أنني أول من ترجم أعماله إلى العربية. كما أخبرته أنني جعلت من جملته «هذا هو العالم» عنوانا دائما لزاويتي. وقلت له: «ولدّي سؤال محير: هل كان «السوري» لبنانيا»؟ ضحك وقال «كان أرمنيا من سورية. وأعز أصحابي».

إلى اللقاء