وضوح الرؤية بين العراقيين أولا!

TT

ان اشتداد وتيرة العنف في العراق واتساعه كما ونوعا وبوتائر متصاعدة واتخاذه أخيرا الاتجاه الأخطر، اذ يبدو ان طاحونة العنف العراقية لا بد ان تدور مستكملة دورتها بالاقتتال والتهجير الطائفي الواسع، وحيث يوضع البلد برمته امام مفترق خطير، فإن هذا يستلزم ألا تكون المعالجات تقليدية او من نوع تلك التي تم تبينها ولم تثبت فاعلية او جدوى او بالبقاء في دائرة الجدل، وهنا اجد أنه لا بد ان نتجه الى بنية التفكيرالاجتماعي التي تنعكس وتنمط السلوك السياسي، من خلال تناول ظاهرتين اساسيتين.

اولاهما ان الملاحظ على كل المستويات السياسية انها مصابة بخلل بين يتسم به العقل الجمعي، وهو القدرة الفائقة على تشخيص الخلل والنقد مع افتقار الى وضع المعالجات والحلول، وهذه ربما تعود باسبابها الى انها نتاج الابتعاد عن المشاركة السياسية طيلة تأريخنا، إلا ان الغرابة ان يظل ذلك يسود حتى بعد الوصول الى السلطة واتساع دائرة المشاركة في صنع السياسات واتخاذ القرارات، اذ استمرت النخب السياسية بامتلاك القدرة على التشخيص والنقد مع عجز عن ايجاد الحلول، إلا ان حتى هذه البراعة الاحادية الجانب باتت متأثرة بالاستقطابات والميول الكتلية مما جعلها تفترق بشكل حاد، بل تتقاطع في رؤيتها للمشكلة الواحدة، فلا نجد اتفاقا او مقاربات مشتركة للآن على تشخيص مسببات غياب الأمن واستعصاء جلب الاستقرار، فلو وفر الفرقاء السياسيون على انفسهم ذلك بانتدابهم وتكليفهم شركة استشارية لبحث هذه المسألة ولوضع حلول للخروج من دوامتها، لربما كان أجدى، اذ لا يعقل ان تضرب الفوضى في بلد وينهار سلمه الاجتماعي وتتدمر بناه ويطال القتل فيه وباتجاهات يصعب تصنيفها؛ عنف لو وزع على كل مجتمعات الارض لناءت بحمله، ولا نجد الى الآن رؤية موحدة له، فكيف اذن بالعلاج؟

الا ان التفسير الاقرب لمسببات ما يجري والذي يستسيغه الجميع ويلقى هوى في نفوسهم، هو في إلقاء ذلك على الاجنبي الذي يعمل على فرقة ابناء البلد وزرع الفتن بينهم؛ وهذا يمثل امتدادا للعقلية التي ألفناها طيلة عصور وهي إسقاط التهم على الآخر سواء كان معارضا داخليا أو ذا بدعة والذي يربط دائما بالاجنبي اما كفكر وافد وغريب او مدعوم من الخارج، وبذلك تلصق به تهمة الخروج عن الاجماع ليسهل «تجزيره» عن المجتمع اي اقصاؤه عن الامة واجماعها ليسهل ضربه واستئصاله، ان عقلية إسقاط التهم على الآخر والتي هي إحدى الآليات التي اعتمدناها لتحقيق اجماع مفقود ولتسهيل تبرير وتفسير الاصطراعات البينية، الطبيعية ربما، تدور حول المصالح وتحدث في كل المجتمعات والتي نجحت في تقنينها وأطرت تنافسها من خلال مؤسسات وعجزنا نحن عن ذلك طيلة تاريخنا، لذلك نجد ان كل الاطراف ومهما اختلفت إلا انها تتفق وبمعدلات متفاوتة على تحميل وزر ما يحصل على المحتل، فهو وراء استمرار الانفلات الامني بل المغذي له وهو المحفز بل المحرض على الاقتتال الطائفي، وهوالمسبب لفشل الحكومة بشلها واضعافها كمقدمة لاسقاطها واستبدالها بمشاريع اخرى مضمومة، وان ما يحدث في المجتمع من اصطراعات هي غريبة عن سلوكه، وبالتالي لا بد ان يكون من ورائها الاجنبي، ربما هذه الرؤية تمتلك جزءا من الحقيقة وتفيدنا نفسيا، ولكن ضررها الخطير بأنها تبرئ النفس من المسؤولية وتريحها عن اجتهاد الحلول وتحول الاتجاهات وتفشل المعالجة.

الظاهرة الاخرى التي هي مجتمعية لكن تنعكس بقوة وتتمظهر في السلوك السياسي، هي تغليف المصالح الذاتية والفئوية بشعارات وطنية كبرى، وهذا الميل والسلوك الذي نختزنه افرادا وجماعات، غالبا ما يقود الى اتجاهات مضللة، خصوصا عندما تكون هناك براعة باخفاء وتغطيس الدوافع الحقيقية ويتم ابراز جزء ظاهر الى الرأي العام الذي ينقاد بسهولة بسبب من كثافة التبرير والبراعة بربطه بالثابت الوطني او المقدس الديني.

اذ ان القضية في العراق لم تعد، وربما لم تكن، مسألة احتلال، بل هي مشكلة سلطة والخلاف على اقتسامها وما يستتبعها من توزيع واقتسام الثروة، لهذا فإنه سيكون هناك استغراب واندهاش كبير على تبادل الأمكنة في الموقف من استمرار الوجود الاجنبي اذا ما طرح جديا بعيدا عن الاجواء الاعلامية والكسب السياسي وممارسة الخداع الذي اتقنه الكثيرون بلعن المحتل نهارا وخطب وده ليلا، اذ ان الذي درج ومنذ البدء على الاصرار على سحب القوات الاجنبية كان يظن بأن ذلك سيجعله الطرف المهيأ للانقضاض على السلطة عند حصول فراغ ما بعد الانسحاب، لكن هذه المدركات غير الواقعية بدأت تهدأ وتلامس أرض الواقع، باستثناء عند من استمر بخوض معركة صفرية لتيقنه بأنه لن يكون له مكان في عراق مستقر، ثم أخذ البعض وبتطور لاحق يوظف المقاومة ضد المحتل ليس بهدف اخراجه، بل لابتزازه سياسيا وللضغط عليه لتعديل ميزان المعادلة السياسية، من جهة ثانية، فإن جزءا من الفعل المضاد للقوات الاجنبية او ذلك المنتهج تدمير البلد وابقاءه في أتون العنف، هو إما وسيلة لافشال المشروع المراد بناؤه في العراق، او حرب بالنيابة وفعل تخادم لمصلحة اطراف اقليمية تخوض معاركها عن بعد وفي ساحات الغير لدرء مخاطر التغيير عنها وبغية تحسين أوراقها التفاوضية.

أخلص الى مفارقة لافتة، الى ان الوجود الاجنبي في العراق بات ضارا ومرتهنا لخدمة الاطراف المتصارعة وعرضه للابتزاز المحلي والاقليمي، اكثر مما هو وسيلة للحل، وانه بدل ان يحمي من الانزلاق الى المخاطر المحتملة، فان مهمته اصبحت ادارة الفوضى وتحقيق التوازن بين اطرافها، وبات كابحا على بلوغنا سن الرشد، فهل هذه غاية مبتغاه استراتيجيا أم مجرد فشل؟