في الربع الخالي الكندي: بلد الهجرات

TT

كان يقال عندما يصل الإنسان إلى القمر سوف يجد في انتظاره لبنانيين: واحد يحمل «كشة» وآخر يحمل ريشة ومحبرة. وكان الزميل رفيق خليل المعلوف يحفظ هذه القاعدة ويعمل بها ولا يناقشها.. فزوج خالته، نصرة نادر، سافر إلى أميركا ومعه «كشة». ثم فتح مطعما لبيع الحمص في كونتيكت. ثم رزق ابنه رالف، الذي سيصبح ثالث مرشح للرئاسة الأميركية. توقع الزميل العزيز أن يسبقه لبناني إلى القمر. أو المريخ. ولكن ليس إلى بلاد الاسكيمو. غير انه ما أن وطأ عاصمة شمال كندا المتجمد، يللو نايف، بدعوة من الحكومة الكندية، حتى قال له الدليل الذي يستقبله: «ليس لدينا الكثير تراه. جليد ثم جليد ثم أساطير جميلة وأكواخ وسمك. والمعلم الوحيد خارج رتابة الاسكيمو هو العم بيتر بيكر». وفي المساء خرج يزور العم بيتر بيكر. رجل في حوالي السبعين لكن حياة الصقيع جعلته يبدو في الثمانين. ورحب العم بيتر بالزائر وضيف الحكومة. ومد يده من النافذة واصطاد أربع سمكات ووعد ضيفه بعشاء شهي. ثم سأله: «بالمناسبة، من أي بلاد أنت». وقال رفيق انه من بلاد بعيدة تدعى لبنان. وهب العم بيتر معانقا وقال بلهجته الجنوبية: «يا تقبرني من وقت ما دخلت البيت قلت هالشب بيشبه ابن عمي محمود».

لقد عثر رفيق على أول لبناني في بلاد الاسكيمو. والاسم الحقيقي للعم بيتر بيكر هو احمد بدوي الفران. وعندما وصل إلى بلاد الاسكيمو العام 1907، عابرا بوادي الثلوج والجليد في «الربع الخالي الأبيض» على ظهر عربات تجرها الكلاب، قيل له ما اسمك، قال فران، قيل له ما معناها قال بيكر. وأصبح احمد بدوي الفران، بيتر بيكر. وأحبه أهل الاسكيمو، ووثقوا به. وصار من أهم تجارهم. وفي تلك البلاد التي لا شيء فيها سوى العتم الطويل والنهار الطويلة والدببة البيضاء هائلة الحجم، راح الفران يحن إلى رفاقه وأهله في النبطية ويقرض الشعر دون انقطاع. هل تريدون نموذجا من الشعر العربي المكتوب في بلاد الاسكيمو:

طال اغترابي وآمالي تعللني لا طيب عيش لا صفو له ارد

واصلت سعي مجتازا على سعي اطوي الفيافي من صقع إلى بلد

فلا وجدت صديقا في الزمان ولا ترجى صداقة إنسان إلى احد

أصبح احمد بدوي الفران نائبا عن المنطقة في مواجهة منافسيه من الاسكيمو. وعندما ذهبت إلى كندا العام 1974، كانت من أوائل الأشياء التي سعيت إليها، مقابلة شاعر الربع الخالي في القطب المتجمد. وكانت الحكومة الكندية قد كرمت رجل الاسكيمو بجعله عضوا مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وسوف يحتل مقعده في المجلس فيما بعد، الصديق محمود حرب، الذي لم يذهب إلى القطب، لكنه بدأ في كندا يغسل الصحون، ثم أصبح نائبا لعدة دورات، ثم عضوا دائما في مجلس الشيوخ، أو المكرمين.