أية أفكار يحملها الأطفال عن وحشية العالم؟!

TT

في عقد الخمسينات من القرن الماضي شهد بيتنا دخول المذياع لأول مرة، فأفرد له والدي صدر المجلس، وخاطت له الوالدة رداء من قماش منثور بقطع معدنية براقة، وقد كان المذياع كبير الحجم، ويعمل بالبطاريات السائلة التي يفترض إعادة شحنها كل يومين، وقد فرض علينا ذلك صناعة عربة خشبية صغيرة لنقل البطارية من البيت إلى حيث تشحن وإعادتها، والقيام بذلك اعتبر جزءا من مسؤوليتي.. وحينما نشبت حرب السويس التصق والدي بالمذياع، وبعد كل جملة وأخرى يقوم ببعض الحركات العصبية كبرم شاربه أو أن يخبط على الطاولة بكفه قبل أن يستغرق في تفكير عميق، وكنت أراقبه باستغراب وأنا غير مدرك لما يصبه ذلك المذياع من كؤوس الحزن على مسامع أبي، فلقد كانت الحروب وويلاتها لا تدخل في اهتمامات الطفولة.

واليوم كنت أشاهد التلفاز يعرض صورا دامية لبعض المجازر الإسرائيلية التي ارتكبتها في لبنان حينما صاح طفل بجواري لم يتجاوز الثامنة قائلا: «هذه إسرائيل تقتل الأطفال»، فنظرت إلى الطفل الذي لم تمهله الأيام كي ينضج على نار هادئة إذ أحرقت دمه، فهذا الطفل الصغير لم يعد بمعزل عما يحدث حوله من حروب وكوارث ودمار، كما لم يعد بمنأى عن رؤية الوجه القبيح للعالم وظلم الإنسان لأخيه الإنسان.

وقد راح الطفل بعد ذلك يمطرني بأسئلة معقدة عن «حزب الله» ولبنان وموقف المسلمين من هذه الحرب، وأنا أبحلق بذهول في وجه ذلك الطفل التي سرقت الأحزان طفولته وحولت قاموسه إلى علامات استفهام تبدأ بـ«هل» ولا تنتهي عند «كيف»، فالحروب اليوم في ظل وسائط الإعلام الحديثة تدخل كل بيت، وتقتحم كل الأعمار، وتصب كؤوس قلقها على كل النفوس.

تلك هي مؤثرات الحرب على الأطفال من بعد، ولنا أن نتخيل أحاسيس أطفال لبنان الذين هم على مسرح الحرب، وقد غدا الكثير منهم جزءا من حطامها، كيف يعيشون؟.. كيف ينامون؟.. كيف يحلمون؟.. وأية أفكار عن هذا العالم المتوحش يحملون؟

في الحروب التقليدية القديمة حينما كان العالم لم يزل يحتفظ بإنسانيته، كانت للحروب ميادين ينأى عنها الأطفال والنساء، وحينما رحل الإنسان من داخل الإنسان أصبح الموت في الحروب مشاعا لا يدقق في عمر الضحية ولا جنسه، حيث تستند الانتصارات الوهمية والهزائم اليقينية على مقارنات أعداد الضحايا.. ولا عزاء لعالم يحكمه الجنون.

[email protected]