مأساة العراق ونجاح المصالحة: فك الاشتباك بين المفاهيم والانتماءات

TT

روت أم مصطفى بجزع قصتها قائلة: «لم تكن ساعات الصباح تحمل لي تباشير صباح هادئ، كما عهدناه سابقاً»، لتضيف بمرارة «اسكن في هذا البيت، الذي هو جزء من شركة اعمل فيها صباحاً ليكون ملجأً لي ولعائلتي مساءً».

وتتابع السيدة «داهمت قوة مؤلفة من مجموعة ترتدي ملابس مغاوير الداخلية المنزل، بدعوى انني مطلوبة قضائياً من قبل وزارة الداخلية للتحقيق معي في قضية لا علم لي بها، أصابني الهلع انا وأطفالي، كنت وحيدة بالمنزل فاستحلفتهم ان يتركوني، وليس لي أي علم بما يدعوه، اني انتمي لمجموعة مسلحة، ما جعلهم يطلبون مني ان اتصل بعائلتي واطلب أخي الذي أتى مسرعاً ليكون بديلاً عني في عملية الاعتقال». وتزيد باستغراب «اذا كان عندهم أمر قضائي باستحضاري لماذا تركوني واخذوا أخي، انا لا اعلم اين ذهبوا بشقيقي وحتى اني شككت بكونهم قوة أمنية تابعة لوزارة الداخلية»، مضيفة «بعد عدة أيام وجدنا اخي مقتولاً ومرمياً في منطقة الدورة (جنوب بغداد) مع 14 جثة عليها آثار التعذيب، لم اصدق الأمر هل ذهب اخي ضحية بدلاً عني، منذ الحادث وأنا اعجز عن فهم ما يدور في منطقتنا تحديداً، ومدينة بغداد بشكل عام»، («الشرق الأوسط» العدد 10082).

ان حيرة أم مصطفى لم تعد مقصورة عليها، بل صارت تشمل اغلب العراقيين، كون المشهد الفائت بات يتكرر يوميا في العراق الجريح، ليؤكد لنا استمرار مسلسل الإرهاب، ومعه مسلسل الغموض الذي ما زال يكتنف تلك الجرائم، فهناك من يقول إنها أجهزة الأمن الرسمية والبعض يؤكد إنها ميليشيات مسلحة، في حين أن البعض الآخر يرى ان ذلك ما هو سوى تواطؤ علني بينهما لأجل أجندات فئوية وطائفية.

على أن الإشكالية في تقديري، تكمن في عدم توصل الزعامات السياسية إلى حلول تنقذ الانهيار الأمني في العراق، فالحل يكمن بالتأكيد في يد العراقيين، وليس في أيدي دول الجوار، كما يعتقد البعض وان كان تعاونها مع العراق ضروريا من اجل استقرار الاقليم. غير ان ما يحدث في العراق لا يمثل حالات فردية يمكن معالجتها، بقدر ما انها ظاهرة في طريقها للتضخم، وبالتالي الرسوخ مما يهدد العراق بحرب أهلية لا سيما بعد استفحال نزعة العنف والتكفير وتعاظم خيار التطرف والإقصاء والاستئصال.

ان التسامح والسكوت عن مخاطر بهذا الحجم، وعن سلوكيات بهذه الوحشية كما جاء في بداية هذا المقال، سيؤدي بلا محالة الى مزيد من خلق بيئة من الرعب والخوف، وهذا يشكل خطرا حقيقيا على حياة المواطنين، وفي ظل غياب سلطة قادرة على الإمساك بزمام الأمور، فإنها على الارجح ان تتصاعد.

ولعل ما يشير الى صحة هذا الطرح ما نلحظه من تزايد في مستوى العنف في العراق حتى بعد مقتل ابو مصعب الزرقاوي بدليل ما قاله المتحدث باسم القوات الاميركية حيث توقع حدوث المزيد من تفجيرات السيارات المفخخة، خصوصا في بغداد بسبب الخبرة التي يتمتع بها الزعيم الجديد للقاعدة «ابو حمزة المهاجر» في تفخيخ السيارات.

وتبقى الأرقام البرهان القاطع لهذا المناخ المأساوي، فمشرحة بغداد استقبلت 1595 جثة في الشهر الماضي، حيث وجدت معظم الجثث بها جروح ناجمة عن أعيرة نارية في الرأس. مما دعا بأحد المسؤولين في وزارة الداخلية العراقية، ان يكشف الواقع المرير حين قال إن «أعداد الجثث بات يزداد يوماً بعد يوم، مع اضطراب الوضع الأمني في مدينة بغداد». وأضاف «اننا نعثر على 40 جثة خلال ثلاث ساعات في منطقة واحدة، فهذا مدعاة لمراجعة حساباتنا الأمنية».

وفي خضم هذا الاحتدام والاتهامات وضمن هذا المناخ المأزوم الملبد بغيوم القتل الجماعي اليومي والتدهور الاقتصادي، وفي غياب وجود توافق عراقي وطني يستقطب الاغلبية العراقية حوله بكل تكويناته العرقية والاثنية، فضلا عن التدخلات الخارجية السلبية التي تمارس من قبل قوى إقليمية مؤثرة على الساحة العراقية لتعطيل أية عملية سياسية، بات من الضروري ان تتحرك الحكومة العراقية باحثة عن مخرج يؤدي في نهاية المطاف إلى فتح صفحة جديدة لتكرس الحوار الداخلي كبارقة أمل نحو المصالحة الوطنية من اجل وطن آمن ومستقر.

ولذا كانت معادلة الخطة الأمنية مع مبادرة المصالحة، كخطوة نحو الانفراج مما يبلور أرضية خصبة تؤدي الى فك الاشتباك بين المفاهيم والتوجهات التي ترتبت على الاحتلال، ومن ثم معالجة الأزمات العراقية المزمنة والتي تراكمت بفعله.

على أن التنظير يبقى تنظيرا ما لم يترجم على أرض الواقع. وهي مهمة ليست يسيرة المنال على أي حال. وكان المالكي قد أعلن عن خطته الرامية الى انهاء العنف في البلاد، والتي أطلق فيها عفوا عن المتمردين من أجل دفعهم للتخلي عن العمل المسلح والدخول في العملية السياسية، ويقال إن ما بين (15 ـ 20) فصيلا عراقياً مسلحا، أبدى رغبتها بفتح باب الحوار مع الحكومة.

ورغم التحفظ الذي أبدته بعض القوى والجماعات، إزاء هذه المبادرة، وعدم تضمينها بعض النقاط المهمة حسب رؤيتهم كجدولة انسحاب القوات المتعددة الجنسيات وحل سلاح الميليشيات ومطالب المجموعات العسكرية بإعادة الجيش العراقي السابق. فضلا عن التأكيد على الانتماء العربي ورفض موضوع اجتثاث البعث.

غير أن التكهن بنجاح أو فشل هذه العملية امر مرهون بمدى مرونة المفاوضات التي ستتم على أساسها المصالحة وان كانت الكرة في ملعب الحكومة، أو هكذا يفترض ان يكون، لأن نجاح المصالحة يعني لها الكثير، فهي بذلك ستعيد الثقة في نفسها قبل شعبها، وسيحقق لها القدرة على التمييز بين الجماعات الإرهابية والمقاومة، كما انه سيعجل برحيل المحتل لا سيما في وجود رغبة مشتركة من الجميع في تحديد جدول زمني لخروجها. وعندما تتناغم هذه المصالحة مع كافة الاطراف المعنية، فإن هذا يعني في ما يعني، حكومة قوية ذات سيادة وسلطة ومدعومة من كافة القوى والتيارات مما يهيئ مواجهة جادة للإرهاب، وبالتالي تقهقره. ناهيك من إلغائها للذرائع الأميركية بالبقاء حيث لا ذريعة ولا سبب حينذاك يسوغ بقاء قواتها.

لقد أصبح المشهد العراقي مؤلما وبائسا، ووصل الى أقصى درجات القلق والرعب والانهيار، ونحن موقنون ان العراقيين الشرفاء يرغبون في العيش بسلام في بلدهم، صاحب الحضارة والتاريخ. ويتطلعون الى تلك اللحظة الفارقة في ان يمارسوا حياتهم الطبيعية في بلد آمن ومستقر وموحد. ويحدونا الامل في ان يرتهن العراقيون الى لغة العقل والحكمة والتسامح.

إن هذه المبادرة، مبادرة وطنية تفسح المجال أمام كل القوى والتيارات السياسية بأن تسهم في العملية السياسية، وتقوم بتفعيل هذه المبادرة من اجل الدم العراقي، الذي يراق كل يوم، وعلى الجميع أن يوقن أن التاريخ لن يرحم أولئك الذين يضعون مصالحهم الذاتية والفئوية والطائفية فوق مصلحة العراق. فمصلحة الوطن والمواطنة تبقى فوق كل الاعتبارات الأخرى. والقادم من الأيام كفيل بالإجابة عن تساؤلاتنا، وعما إذا تحققت آمالنا؟!