بلد الهجرات والمهاجرين خالتي، شقيقة جدتي

TT

تشبه هيلين توماس فلاحات القرى: شعر مرخي بغير ترتيب، وقامة ربعية ممتلئة بغير تناسق، ووجه شرقي مبالغ في معالمه وخصوصا، كالعادة، في الأنف. وأما ثيابها فتشبه ثياب الراحلة العزيزة نينا بتروفنا، زوجة نيكيتا خروشوف. هذه هي اشهر وأقدم صحافية في البيت الأبيض. وهذه هي المراسلة التي يحق لها أن تطرح السؤال الأول في أي مؤتمر صحافي يعقده الرئيس. وعندما سألت جورج بوش مرة «لماذا أنشأت مكتبا دينيا في البيت الأبيض مخالفا الفصل بين الدين والدولة»، حرمها من هذا الحق. لكن هيلين توماس التي ترفض التقاعد ظلت تأتي إلى البيت الأبيض وتطرح أسئلتها. إنها عادة قديمة بدأت المرة الأولى في عهد روزفلت واستمرت مع كل رئيس منذ ذلك الوقت. ولدت هيلين توماس في وينكستر، ولاية كنتاكي، العام 1920 من أبوين هاجرا من طرابلس. وكان والدها بائعا متجولا ثم بقالا في ديترويت حيث نشأت. وفي ديترويت، مدينة المهاجرين والسمر، تعلمت الوقوف مع الملونين واالمنبوذين. ومنذ عقود نشطت في العمل للقضايا العربية دون وجل. والعام 1983 كان «سؤالها الأول» لرونالد ريغان عن «الأعمال الهمجية التي يقوم بها المستوطنون اليهود ضد العرب في الضفة الغربية». فأجاب ريغان «لم أسمع بهذه الأحداث». وعندما قال الناطق باسم بوش اري فلاتشر إن «الرئيس حزين لإزهاق الأرواح البريئة» قالت له توماس «هل يشمل هذا عنده أرواح العراقيين».

عندما ذهبت إلى واشنطن المرة الأولى في تشرين 1973، قال لي الزميل رفيق خليل المعلوف: «من يهمك أن تقابل، ريتشارد نيكسون أم هيلين توماس». ولا شك أن هذه السيدة كانت تعرف عن تاريخ وزوايا وحكايات البيت الأبيض أكثر من آنذاك. وقلت لرفيق «في أي حال لن أضيع هيلين. إنها تشبه رشدي، شقيقة جدتي شبها غير معقول، إلا من المنديل الذي لم يفارق رأس جدتي سعيدة أو شقيقتها».

بدأت هيلين العمل نادلة في مطعم. ثم «حاجبة» في وكالة اليونايتدبرس. وبعدها أصبحت مراسلة. ثم عمة المراسلين. وعملت كذلك في الراديو. ولم تضع مؤلفات كثيرة، إلا من بعض ذكريات المهنة. ويبدو أن كينيدي كان أحب العهود لديها. وتحفظ بدفء شعاره القائل «إذا لم يكن بإمكاننا أن نزيل اختلافاتنا فلنجعل العالم مكانا آمنا للتنوع».

ابنة بقال وبائع «كشة» تصبح نزيلة دائمة في مؤتمرات البيت الأبيض. لا يمكنها أن تفاخر بأصلها ولا أن تستحي به. إنها المهنة التي عمل فيها كل مهاجر دون استثناء. لقد سلكوا طريقا واحدا في «بحر الظلمات». ورسوا في ميناء واحد. ثم تفرقوا إلى مصائرهم يكدّون والى حظوظهم في الحياة تتفاوت. إلى اللقاء