«حزب الله»: ما فات فات.. وما هو آتٍ آت!

TT

لم يكد مجلس الوزراء اللبناني يعلن موافقته على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 حتى بدأت العصي توضع في الدواليب، فحزب الله طوَّر «تحفظاته» التي أبداها وزراؤه خلال الاجتماع الحكومي الذي بقي يناقش كل بنود هذا الاتفاق لساعات طويلة قبل إقراره، وأعلن رفضه للانسحاب من الشريط الحدودي الواقع بين الخط الأزرق ونهر الليطاني الذي من المفترض ان ينتشر فيه الجيش اللبناني وتتمركز فيه قوات الأمم المتحدة ورفضه أيضاً لتسليم أسلحته للحكومة اللبنانية.

والمشكلة، التي بدأت قبل أن يبدأ تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي الجديد، هي أن حزب الله في رفضه الانسحاب من الشريط الحدودي وتمسكه بعدم تسليم أسلحته للحكومة اللبنانية يستند الى قناعته وربما مكابرته بأنه انتصر في هذه المواجهة: «إن الحزب انتصر في الحرب ضد إسرائيل وهو لم يهزم.. هل يجوز التصرف معه وكأنه مهزوم فتقوم وسائل الإعلام بالتقاط الصور لهذا السلاح أثناء إخراجه من المنطقة»؟!.

وبغض النظر عن جدل الانتصار والهزيمة الذي يجتاح شاشات الفضائيات والذي يملأ الصحف العربية، فإن الضرورة تقضي بالعودة الى البدايات والتساؤل عما إذا كان الذين خيضت هذه الحرب نيابة عنهم قد اكتفوا من الغنيمة بالإياب وأنهم لن يلجأوا الى هجوم معاكس ومن خلال حزب الله أيضاً للإبقاء على لبنان بؤرة متأججة الى أن يحققوا كل ما يريدونه وحتى لو لم يعد في هذا البلد، الذي قدره ان يبقى ساحة مواجهة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، حجراً على حجر..؟!

وهنا فلعلَّ ما بات واضحاً هو أن هذه الحرب، التي ألحقت بلبنان دماراً لم تلحقه كل الحروب الإسرائيلية بأي من الدول العربية التي شاركت وساهمت في هذه الحروب، قد خاضها حزب الله بالنيابة عن إيران أولاً وعن سوريا ثانياً، في حين ان إسرائيل من جانبها قد خاضتها بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن الولايات المتحدة الأميركية.

لقد أرادت إيران، وهذه مسألة غدت واضحة ومعروفة، أن تثبت حضورها على ساحة الشرق الأوسط الذي تطالب بدور فيه يتناسب مع قناعتها بأنها أهم رقم في المعادلة الإقليمية، وأرادت أيضاً ان تعزز موقفها في المواجهة الدولية التي تخوضها بالنسبة لسعيها لامتلاك الأسلحة النووية، فبادرت الى افتعال قضية اختطاف الجندي الإسرائيلي الذي اختطف في غزة بواسطة «حماس» وبعد ذلك باختطاف الجنديين الإسرائيليين اللذين اختطفا في الجنوب اللبناني في الثاني عشر من يوليو (تموز) الماضي عبر حزب الله.

ولقد أرادت سوريا، المتحالفة مع إيران عسكرياً وسياسياً وفي كل شيء، إثبات ان إخراجها من لبنان بالصورة التي أُخرجت بها يعني الفوضى والخراب والدمار والعودة الى الحرب الأهلية، كما أرادت ان تُمتِّن ما تسميه «تلازم المسارين»: المسار اللبناني والمسار السوري، والإبقاء على: «مسمار جحا» في مزارع شبعا، فلم تجد إلا حزب الله الذي أصبح يشكل احتياطييها الاستراتيجي في لبنان منذ ما بعد الغزو الإسرائيلي في عام 1982 مباشرة.

إن هذه هي الحقيقة، وهي حقيقة لا يمكن ان ينتقص منها فرسان النضال والجهاد الثوري المريح عبر شاشات تلك الفضائية التي تبث من موقع متوسط بين «السيلية» و«العديد» في تلك الدُّويلة التي أصبحت محطة تلفزيونية.. أولئك الذين كانوا رددوا مع صدام حسين ذات يوم «يا محلى النصر بعون الله» وهم الآن يقيمون الافراح والليالي الملاح ابتهاجاً بانتصار حسن نصر الله .. وأي انتصار .. أيُّ انتصار !!.

كان المفترض ان يستثمر حزب الله المقاومة الشجاعة التي أبداها في مواجهة العدوان الإسرائيلي، الذي لم يكن هدفه تحرير الجنديين المختطفين اللذين اتخذ من اختطافهما ذريعة لإلحاق كل هذا الدمار والخراب بلبنان، وأن يبدأ بالتخلي عن أن يكون دولة داخل الدولة اللبنانية، والتخلي أيضاً عن لعبة «تلازم المسارين»، وعن التزامه بكل ما يصدر عن طهران من توجيهات وإرشادات، وأن لا يبقى يربط نفسه بالقاطرة الإيرانية، وأن يستبدل صيغة ما قبل هذه الحرب بصيغة جديدة تحافظ على مكانته وشعبيته في الشارع اللبناني وفي الحياة السياسية اللبنانية بعيداً عن السلاح والتسليح والصواريخ والاستعراضات العسكرية.

لكن الواضح أنه غير معني بأن يفعل هذا، وأنه رغم هذا الدرس القاسي الذي كان من المفترض أن يتعلم منه الشيء الكثير لا يزال يلتزم بالتزاماته السابقة ولا يزال يصرُّ على صيغة دولة داخل الدولة، والدليل على ذلك أنه بادر حتى قبل ان يجف الحبر الذي كتبت به الحكومة اللبنانية موافقتها على قرار مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 1701، الى إعلان أنه لن يسحب قواته من الشريط الحدودي الذي من المقرر ان ينتشر فيه الجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة، وأنه لن يسلم أسلحته الى حكومة فؤاد السنيورة.

وبهذا، وإذا بقي حزب الله يصر على موقفه هذا، وإذا لم يتعلم من هذا الدرس القاسي وبقي يربط نفسه كـ« برغي» صغير في اللعبة الإقليمية، فإنه، حتى وإن كانت نواياه حسنة، سيدفع لبنان نحو هاوية الحرب الاهلية المدمِّرة التي كان هو أحد إفرازاتها والتي كانت وعلى غرار الحرب الأهلية في عام 1958 حرب تصفية حسابات بين القوى المتعارضة في هذه المنطقة وعلى الساحة الدولية عندما كانت الساحة الدولية ساحة معركة للحرب الباردة وبين الغرب والشرق.

إن المفترض ان حزب الله حزب لبناني وأنه يعرف الشؤون والشجون والدهاليز اللبنانية أكثر من فرسان شاشة تلك الفضائية التي تبث من منطقة وسط بين «العديد» و«السيلية»، ولذلك فإن المتوقع أنه يعرف أنه لا يحظى بالإجماع اللبناني الذي تغنى به الكثيرون بينما كانت المعركة محتدمة وأنه عندما يبرد الجرح ويكتشف اللبنانيون حجم المآسي التي ألحقتها هذه الحرب بهم وبالبنية التحتية لبلدهم فإنهم لن يبقوا صامتين ولن يبقوا قابلين بما كانوا يقبلون به سابقاً.

على حزب الله أن يدرك ان هذه الحرب، التي يصرُّ على أنه انتصر فيها، ستترتب عليها معادلة جديدة غير المعادلة السابقة إنْ في لبنان أو في الإقليم كله، وهذه مسألة يجب ان يأخذها بعين الاعتبار منذ الآن، فالوضع غدا أكثر تعقيداً مما كان عليه في السابق والقوى والأحزاب والطوائف اللبنانية التي كانت قابلة بالأمر الواقع لا يمكن ان تبقى تقبل به بعد ان حدث كل هذا الذي حدث .

لم يعد هناك مجال لتلازم المسارين، ولا لدور إيراني متفوق على الساحة اللبنانية، وأن ما يجب ان يدركه حزب الله أنه لم يعد بإمكانه بعد هذه الحرب ان يلعب اللعبة السابقة نفسها وأن يحاول خلط الأوراق مرة أخرى، فما فات فات وكل ما هو آت آت، وبنود قرار مجلس الأمن الدولي واضحة، وهذا المجلس سيعود بالتأكيد الى إصدار قرار جديد يضمنه الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة إذا لم تجر الأمور كما هو مقرر لها، وإذا بقي هذا الحزب يتشبث بعدم الانسحاب من الجنوب وبعدم تسليم أسلحته للحكومة اللبنانية.

بعد أيام سوف يبرد الجرح، هذا إذا كان لم يبرد بعد، وحينها فإن عيون اللبنانيين، بما في ذلك أبناء الطائفة الشيعية، لن ترى كنتيجة لهذه الحرب سوى كل هذا الدمار والخراب وكل هذا التهجير والتعثير.. ولذلك فإن الأفضل لحزب الله ان يسارع الى تأهيل نفسه للمرحلة الجديدة وأن يتخلص نهائياً من كل تحالفاته والتزاماته الخارجية السابقة !!.