مقتضيات «الشراكة الاستراتيجية» من الملك عبد العزيز إلى الملك عبد الله

TT

أضاف الملك عبد الله بن عبد العزيز في زيارته الى تركية من الثلاثاء 8 إلى الخميس 10 أغسطس (آب) 2006، خطوة جديدة على مشروع «الشراكة الاستراتيجية»، الذي تريده المملكة مع الدول الفاعلة في المجتمع الدولي، وذات التأثير في المحيط الاقليمي. وما تم انجازه خلال هذه الزيارة على صعيد البناء الاستراتيجي، يذكرِّنا بما انجزه الملك عبد الله، عندما فاجأ المجتمع الدولي بأن زيارته الأولى بعد مبايعته ملكاً للبلاد خلفاً للملك الراحل اخيه الملك فهد كانت يوم 21 يناير (كانون الثاني) 2006 للصين الدولة التي تتطلع إلى أن تكون بعد ربع قرن «سوبر الدول العظمى»، وكانت احدى زيارات تاريخية قليلة شهدتها الصين، ولقي فيها الملك عبد الله الاستقبال، الذي أرادت منه الدولة المتجددة التي تنأى بنفسها عن سياسة التدخل في شؤون الآخرين وتواصل بحكمة وجدية بناء الدولة النموذج في الربع القرن المقبل، ترجمة ارتياحها لـ«الشراكة الاستراتيجية»، التي أرسى عبد الله بن عبد العزيز قاعدتها بزيارته، وما رافقها من اتفاقات في معظم المجالات. كما ان الذي تم انجازه خلال زيارة الملك السعودي السادس، يجعلنا نستحضر الزيارة التاريخية الأخرى، ونعني بها زيارته في سبتمبر (أيلول) 2003 وكان ما زال ولياً للعهد الى موسكو، وهي الأولى منذ 77 سنة، عندما اقامت المملكة عام 1926 علاقات دبلوماسية مع الكرملين. وفي معرض الإشارة الى الخشية الأميركية من هذه الخطوة في اتجاه روسيا نضع خطين تحت اتصال هاتفي اجراه الرئيس جورج بوش الابن مع عبد الله بن عبد العزيز، بدا فيه كمن يريد قول ما معناه اننا لا نريد أن يكون الكرملين بديلاً للبيت الأبيض، خصوصاً ان الرئيس فلاديمير بوتين الذي كان يتطلع الى هذه العلاقة مع السعودية كان سَجَّل بادرة نوعية تترك الأثر الطيب في النفس السعودية، وتتمثل في انه قبل الزيارة بأيام، ابدى الرغبة في الانضمام الى «منظمة المؤتمر الاسلامي» كمراقب في مرحلة أولى، ثم كعضو دائم لاحقاً وأراد من ذلك التمهيد للظهور امام الضيف السعودي الكبير بأن الجار القريب بأهمية الصديق البعيد، وأن التجانس النفطي كون المملكة وروسيا من أكبر المنتجين في العالم يعزز ذلك. وما انتهت اليه زيارة الصين على صعيد التأسيس لـ«الشراكة الاستراتيجية»، كانت انتهت اليه زيارة روسيا وبينهما الزيارة التاريخية الأخرى التي قام بها الملك عبد الله الى الهند بعد الصين، فضلاً عن زيارات اخرى قام بها ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز، جعلت بعض دول جنوب شرق آسيا اكثر اقتراباً من المملكة على الصعيد الاستراتيجي من المملكة، وجعلت دولة مثل فرنسا لا تواصل حسدها للأفضلية التي تعطيها المملكة لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا.

ومع ان النفط ومستقبله المنظور على صعيد احتمال النضوب تمهيداً واستباقاً للطاقة البديلة، يشكل العنصر الاساس في «الشراكة الاستراتيجية» من وجهة نظر المملكة العربية السعودية، إلاَّ ان متغيرات الخريطة السياسية في المنطقة تحتم مثل هذه الشراكة ايضاً، وبحيث لا ينحصر الأمر في ميزان التبادل التجاري تميل كفة على كفة، فيجري التفاهم على تعديلها أو تتطلب حركة النمو رفع مستوى التبادل فيتم ذلك في ضوء زيارات متبادلة لا ترقى الى الصفة التاريخية كمثل زيارات عبد الله بن عبد العزيز ملكاً وقبل ذلك ولياً للعهد. وأخير هذه الزيارات وليس آخرها، تلك التي قام بها الملك عبد الله الى تركيا، وشكلت في نظرنا كمراقبين وكمتابعين للشأن السعودي، نقطة تحوُّل كونها الاولى على المستوى الاعلى منذ توقيع اتفاق الصداقة والتعاون عام 1929 ومنذ زيارة قام بها الملك فيصل بن عبد العزيز عام 1966. وتشاء الصدف ان الزيارة الاولى على مستوى رفيع الى الكرملين، قام بها ايضاً وقبل عبد الله بن عبد العزيز أخوه فيصل، وكان زمنذاك وزيراً للخارجية.

ما هو مهم في زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز الى تركيا اوضحتْه عبارات اوردها وزير الخارجية التركية عبد الله غول يوم وصول الملك الى انقرة في موكب جوي من سبع طائرات، توزّع مَن فيها من أعضاء الوفد ورجال الأعمال على ستمئة غرفة وجناح، جاء فيها قوله «إنها زيارة مهمة جداً تؤكد وجود إرادة سياسية متبادلة بين البلدين لتعزيز العلاقات في المجالات كافة بما فيها العسكرية والأمنية ما يؤسس لشراكة استراتيجية بينهما فضلاً عن ان للسعودية مَعَزَّة خاصة في قلوب الاتراك، لأنها قبلة المسلمين.. ». أما الأهم فهو أن للمملكة ثقلها العربي والإسلامي وان تركيا الاردوغانية بالذات، أكثر دولة اسلامية تبعث الطمأنينة في النفس السعودية، حيث انها جسر متين البنيان يربط البر الشرقي العربي بالبر الغربي الأوروبي ليس فقط من الناحية الجغرافية، وانما لأن تركيا على أهبة ان تصبح نجمة جديدة في راية الاتحاد الأوروبي. ومن جهة ثانية، ان تجربة الاسلام الاردوغاني صححت بشكل عقلاني تجربة الاسلام الاربكاني.

واذا كانت للاهتمامات الثنائية على صعيد التشاور والتنسيق السياسي وفي مجالات النفط والمقاولات والاستثمار والضرائب والسياحة ورفع مستوى التبادل التجاري الاولوية في زيارات اهل الحكم السعودي، فإن ذلك لا يعني ان الاهتمامات التي تتعلق بأوضاع الدول الشقيقة لا تحظى بأولوية موازية. بل يجوز القول ان الأوضاع المشار اليها تسبق في بعض المرات ما يتصل بالعلاقات الثنائية بين المملكة وتركيا التي هي على مسافة تحليق رحلة طير منها ربما لأن هذه العلاقات ليست على التأزم الذي يستوجب زيارات تاريخية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن ما يتعلق بالعدوان الاسرائيلي على لبنان، اخذ من الملك عبد الله في احاديثه مع رموز الحكم التركي، اكثر مما اخذته محادثات الوزراء المختصين، الذين كانوا يبحثون في مذكرات التفاهم والوثائق والاتفاقات، بغرض تعديل ميزان التبادل التجاري الذي هو اصلاً لمصلحة المملكة، قبل التوقيع عليها، ودليلنا على ذلك ان الملك عبد الله وجد في اردوغان المسؤول المتفهم الذي يصغي الى الرأي والنصيحة والراغب في علاقة ندية مع العالم العربي، ومِنْ اجل ذلك كانت مشاركته في القمة العربية الدورية التي استضافها السودان يوم 27 و28 مارس (آذار) الماضي، وتحدث فيها بروحية الجار الصديق الذي يريد طمأنة الجيران اليه بأنه ليس متطلعاً الى انبعاث السلطنة العثمانية، وان بلاده لن تكون كما في الماضي غير البعيد على العلاقة العشوائية مع اسرائيل.. هذا الى انه بالمشاركة كمراقب في القمة وعلى نحو ما يتطلع اليه الرئيس الروسي بوتين بالنسبة الى مشاركة مماثلة في «منظمة المؤتمر الاسلامي»، يعزز العلاقة التجارية التركية التي تزداد نمواً مع السودان، شأنها في ذلك شأن التجارة مع الصين التي تزداد هي الاخرى نمواً في السودان وفي السعودية ومعظم دول المنطقة وبالذات في مجال الألبسة والالكترونيات المعقولة الثمن قياساً بالياباني والاوروبي والاميركي من هذه المنتجات. كما ان مشاركته تعزز الجالية التركية في السودان التي لا انزعاج منها كما حال عدم الانزعاج من الجالية التركية في السعودية البالغ تعداد افرادها مئة الف. وعندما نقول إن العدوان الاسرائيلي أخذ من الملك عبد الله في احاديثه مع رموز الحكم التركي، اكثر مما اخذه الاهتمام في شأن العلاقات الثنائية، فلأن هذا سلوك المملكة عموماً وهذا نوع تعاطي اهل الحكم السعودي خلال زياراتهم. أما النماذج والوقائع ففي قول عبد الله بن عبد العزيز، خلال زيارته الرسمية الاولى كولي للعهد الى بريطانيا في مايو (ايار) 1984 لرئيسة حكومتها مارغريت تاتشر «ان وعد بلفور عار، يجب على الجيل البريطاني الحالي أن يصححه.. »، وفي مواجهة الأمير سلطان بن عبد العزيز خلال جولة شملت اميركا وبريطانيا في مارس (آذار) 1997 كبار المسؤولين فيهما الذين اصغوا زمنذاك ودون وجه حق او منطق الى افتراءات والآعيب بنيامين نتنياهو وبدا في هذه المواجهة التي اعتمد فيها الابتسامة العفوية يُصارع خبث رئيس وزراء اسرائيل نتنياهو وابتسامته الماكرة التي ظهر بها على الرأي العام في كل من اميركا وبريطانيا، وكذلك في مواجهة الأمير نايف بن عبد العزيز الذي لا يحبذ لغة الدبلوماسية عندما يكون هنالك ظلم وتجنيات من جانب الادارة البوشية وتمثلت هذه المواجهة بقوله لنا كإعلاميين ومراسلين التقينا به يوم 26 سبتمبر (ايلول) 2002 «ان القوة الاعظم التي تتحكم في العالم الآن تكن عداء للعرب والمسلمين بسبب نفوذ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، الذي يسعى الى تشويه صورة العرب والمسلمين والصاق تهمة الارهاب بهم.. ». ومثل هذا الكلام يصح قوله الآن عندما نسمع الرئيس بوش، يتحدث عن «اسلام فاشستي» تعليقاً على واقعة ارهابية غير محسومة اعلنت بريطانيا اكتشافها قافزاً فوق حقيقة ان الفاشستية الجديدة هي صناعة صهيونية بدليل ما يحدث في لبنان وفلسطين.

وهذه النماذج التي اوردناها على سبيل المثال لا الحصر كمؤشر على ان هموم الآخرين، تتقدم في الزيارات الرسمية وبالذات تلك التي تكتسب الصفة التاريخية او في المناسبة التي تتطلب وقفة حازمة على الهموم السعودية، تأتي منسجمة مع روحية الوالد الملك عبد العزيز، طيَّب الله ثراه، واضع حجر الاساس لـ«الشراكة الاستراتيجية» التي بدأها مع اميركا قبل اكثر من نصف قرن، وكانت في حينها من اجل مواجهة السياسة البريطانية التي تقف في صف الصهيونية وتلبية مطالبها في ان تكون لليهود دولة على ارض فلسطين وهو ما يُعرف بـ«وعد بلفور» الذي بموجبه «وهبت» بريطانيا يهود العالم حقاً لا تملكه من اجل اقامة اسرائيل على ارض فلسطين. ونجد انفسنا تأكيداً لذلك ولحاجة الملك عبد العزيز لشريك استراتيجي، يمكن الاعتماد عليه لمواجهة خطر الفعل البريطاني، نستحضر المذكرة التي بعث بها الملك الى الرئيس الأميركي الثاني والثلاثين فرانكلين روزفلت المؤرَّخة 15 مارس1945 وجاء فيها التوضيح والتنبيه والتحذير على النحو الآتي: «ان اليهود في فلسطين يُعدون العدة لخلق شكل نازي فاشستي بين سمع الديمقراطية وبصرها. ان تاريخ فلسطين يدل على ان العرب سكنوها 3500 سنة قبل الميلاد، واستمر سكناهم فيها بعد الميلاد الى اليوم وحكموها وحدهم مع الاتراك 1300 سنة تقريباً. اما اليهود فلم تتجاوز مدة حكمهم المتقطع فيها 380 سنة وكلها اقامات متفرقة ومشوشة. ان تكوين دولة يهودية في فلسطين سيكون ضربة قاضية على كيان العرب.. ».

لم تحقق الشراكة الاستراتيجية الغرض المنشود مع اميركا الرؤساء الأحد عشر، الذين خلفوا روزفلت وهم: هاري ترومان، دوايت ايزنهاور، جون كينيدي، ليندون جونسون، ريتشارد نيكسون، جيرالد فورد، جيمي كارتر، رونالد ريغان، جورج بوش الأب، بيل كلنتون، جورج بوش الابن (إلاَّ اذا اراد هذا الأخير، وقبل ان ينصرف منهياً ولايته الرئاسية الثانية ان يصحح). وعندما لم تثمر هذه الشراكة التي ارادها الملك الوالد مع اميركا وللحيثيات السابق ذكرها يصبح مفهوماً لماذا، وفي وضوء المتغيرات الدولية ومخاطر الوجود الصهيوني والخوف من ان يتعرض الكيان العربي للضربة القاضية، ان يتجه الملك الابن عبد الله ووفق رؤية حكيمة الى تطوير صيغة «الشراكة الاستراتيجية»، وخصوصاً بعدما لم يلق التجاوب المتوقع من أميركا وإسرائيل وبعض الدول الأخرى على رؤيته للصراع العربي ـ الاسرائيلي التي انتهت وبالإجماع الى «مبادرة عربية» في القمة الدورية الثانية في بيروت أواخر مارس 2002 وقبول الجميع بمضمونها الذي يتلخص في ان التطبيع مع اسرائيل، ممكن انما بعد استكمال الانسحاب من الاراضي المحتلة والالتزام بقيام دولة فلسطينة وتأمين حق العودة. وهذه الشراكة التي تشمل حتى الآن الصين وروسيا والهند وباكستان وحديثاً تركيا تجمع بين المصلحة الاقتصادية للمتشاركين وبين الرؤية الواقعية للقضايا الدولية والاقليمية وللقضية الفلسطينية العالقة والتي من شأن ايجاد الحل العادل والشامل لها ان يأخذ صاحب كل ذي حق حقه ويتنازل كل مغتصب عن وطن غيره.. وبذلك يستقر العالم، وتسلك الدول والشعوب طريق الازدهار.