خارج الكتابة: داخل مصر

TT

عدت هذا الصيف إلى قراءة «خارج الكتابة»* لإبراهيم داود. عالم ماتع من دنيا القاهرة وألوانها ومهرجان الحياة اليومية في حاراتها وأزقتها. ولأنه يكرر الحديث عن صلاة الفجر في مسجد قايتباي، نعرف انه لا بدّ يعيش على مقربة من حارة خيري شلبي ودنياه ومصره. وهي مصر المتشابهة، العبقرية والحزينة والتي لا تكف عن الضحك. من طنطا إلى دمنهور إلى كل الصعيد الذي يملأ حياتها حكايات وجمالا وعباقرة. وعندما اقرأ بإدمان زميلي وصديقي مأمون فندي الجالس على كرسي الأستذة في واشنطن، أبحث دائما عن حكاياته وقصصه في الصعيد. فهو يبدع في نقل مناخ عالمه كأنه ينقل مناخ «نائب في الأرياف». هناك الكثير من عبق القاهرة البسيطة في عالم إبراهيم داود. البيوت ذات السلالم الخشبية، والجار المقابل الذي تسكن عنده ويسكن عندك ويستهلك مع عائلته طنا من الماكرونة في الأسبوع. وربّ العائلة هو العم إسماعيل، الراجل الطيب الغلابة، الذي اكتشفت زوجته انه متزوج من امرأة أخرى لأنه خرج بصدرية فوق القمباز وعاد بأخرى. وكان من عادة العم إسماعيل أن يأخذ كل شيء بالتقريب. فعندما يتشاجر مع ابنه عربي ويحاول هذا أن يمثل على العم الحاج إسماعيل يقول له الحاج «ها تشتغل زي نشارة وكيل» ويقصد بشارة واكيم. أو يقول «الواد ده ها يعمل فيلم من قبل أبنائي» ويقصد «من أجل أبنائي». ويقول «روج الفرج» لكنه لا يقصد «روض الفرج» وإنما منطقة بولاق الدكرور، التي انتقل إليها الكاتب، ومعه براد اشتراه بالتقسيط من العم إسماعيل، وتركه مع عائلته في جيرة احمد فؤاد نجم.

وعندما يعود بعد أعوام إلى الحارة يلتقي الواد عربي، أو عروبة، فيراه قد كبر ولا يزال يعمل في دكان التطريز ولم يصبح نشارة وكيل ولم يعمل فيلم «من قبل أبنائي»، ويسأل إبراهيم داود صديقه القديم الذي خشنت يداه: «ازايك يا عروبة، وازاي الحاجة أم منى وازاي الحاج العم إسماعيل». ويجيب عروبة «ماتوا. كلهم ماتوا. تعالى اشرب شاي».

ببساطة وانسياب تختلط الدراما والكوميديا عند إبراهيم داود. وأحيانا لا يمكن أن تميز. وهو يدفعك بسرعة بين هذين العالمين، مثل خيري شلبي، الذي رفض الخروج من بؤس قايتباي ومقابرها وأمطار حكاياتها وقصصها إلى أي مكان آخر. قلت آنفا السلالم الخشبية في القاهرة. لا يا مولاي. أقصد في طنطا حيث «شاعر يكتب الشعر العمودي بدرفتين» ويرتدي بذلة بيضاء في الصيف والشتاء ويعمل على قطار مرسى مطروح الذي يعرقل طريقه الرمل الذي تنسفه الريح! مثير عالم إبراهيم داود.

* دار ميريت للنشر