«العشق» أعسر

TT

عندما كنت صغيراً كنت أنظر لمن هو «أعسر» ـ أي يستخدم يده اليسرى ـ كنت أنظر إليه بشفقة على أساس أنه غير طبيعي، وشبه معاق، بل ومن «المغضوب عليهم»، حيث أن تفكيري وتفسيري القاصر للآيات القرآنية التي تمتدح وتفضل وتعلي من مراتب «أهل اليمين»، إنما هي بالتالي تقصد مَن يستخدمون أيديهم اليمنى فقط، خصوصاً عندما أشاهد بعض الأهالي ينهرون أبناءهم العسر عندما يحاولون أن يأكلوا بأيديهم اليسرى، أو يتناولوا أي شيء من الآخرين بأيديهم اليسرى، بل إن بعض الأهالي يرغمونهم على الكتابة باليد اليمنى حتى لو أن ذلك تسبب في إرباكهم تعليمياً.

وقد قرأت بحثاً عن هذه الفئة التي تشكل عشرة بالمائة من سكان العالم تقريباً، فهناك ما لا يقل عن ستمائة مليون أعسر، ويا حبذا لو شكلوا لأنفسهم أمة مستقلة وأراحونا منهم وأراحوا أنفسهم، وساعتها من الممكن أن نعلن الحرب عليهم على أساس أنهم أعداء الإنسانية الطبيعية.. وعرفت أن أهل اليابان قديماً كانوا يتحاشونهم، ويصفونهم بغير النافعين وغير المرغوب فيهم، لكنني تساءلت كيف يكون هؤلاء من غير النافعين والمرغوب فيهم، ومنهم مايكل أنجلو ودافنشي وشارلي شابلن، خصوصاً أن فيهم كذلك مارلين مونرو، فكيف لا يكونون مرغوبين؟! هل هذا يُعقل؟!

وأهل اليسار مشاكلهم في الحياة الدنيا أصعب من أهل اليمين، فما أكثر ما تلبّكوا بتزرير ثيابهم، أو لسعوا أجسادهم بالماء الحار، حيث أن الحنفيات مصممة لأهل اليمين، بل إن كل الأدوات المنزلية وغيرها مصممة لمن يستخدم اليد اليمنى، ولا يشعر بذلك إلاّ مَن كان أعسر.. حتى أن شارلي شابلن كان يتمنى في حياته أن يلتحق بفرقة موسيقية، غير أنهم لم يقبلوه فيها لأنهم يعتقدون انه من الممكن أن يخزّ جاره العازف في وجهه، وهذا من حُسن الحظ وإلاّ كنا خسرنا شابلن الممثل العبقري.

ويعتقد أن الأعسر عمره أقصر من الأيمن، لأن السيارات العادية غير الأوتوماتيكية بمجملها تقريباً مصممة للأيمن، وعلى هذا الأساس فناقل السرعة «التعشيق» يعتبر بالبداية طامة كبرى بالنسبة له، كما أن كثيراً من الأدوات الخطيرة قد تؤذيهم، لهذا فالحوادث التي يتعرضون لها أكثر.

حتى اللغات لم ترحمهم، ففي العربية كلمة «الأعسر» تعني «الأصعب»، وفي الألمانية «الأخرق»، وفي الفرنسية «البشع»، وفي الأسبانية «الملتوي».. لهذا أنشئت جمعية للدفاع والحفاظ على الحقوق واسمها: جمعية العسر العالمية، واستطاعت أن ترغم المصانع على تصنيع مئات الأدوات والمعدات الخاصة بالعسر، ووصل الأمر إلى أنه في ولاية فرجينيا في أميركا هناك بلدة اسمها «لفت هاند»، لا يقطنها غير مَن هو أعسر.

غير أن للأعسر ميزة مهمة، فلاعب الكرة الأعسر هو المفضل، وفي الحروب كان الأعسر هو الأخطر، وفي رواية «الدون الهادي» لتشيخوف الفائزة بجائزة نوبل، نرى كيف أن الفارس القوقازي الأعسر يخدع أعداءه عندما يقابل الواحد منهم بحصانه ملوحاً بسيفه بيده اليمنى، وقبل أمتار قليلة ينقله إلى يده اليسرى ويحرف حصانه، وإذا خصمه لا يستطيع حراكاً.

وأختم هذا المقال منتصراً لكل أعسر، ولكل عسراء، وأقول: إن أهم ما في الإنسان وهو قلبه، لقد وضعه الله بكل حنان في الجانب الأيسر من الصدر، لهذا فقط أصبح «العشق» أصعب، وأخرق، وملتوياً، لكنه ليس بشعاً على الإطلاق.

[email protected]