من ينقذ أميركا ـ والعالم معها ـ من الركض نحو الهاوية؟

TT

«التدمير البناء هو اثبت خصائص منهجنا ورؤيتنا، فنحن نعمل على تمزيق النظام القديم. وان مناويئنا حين يشاهدون أميركا تفكك المجتمعات التقليدية فإنهم يخافوننا، ويجب الا نكترث بنقد سياستنا هذه، بل يتعين علينا ان نمضي في طريقنا من اجل دفع مهمتنا التاريخية الى الامام. ان الحرب الشاملة لا تدمر القوة العسكرية لاهل الشر فحسب بل تدفع العدو ايضا الى اقصى نقطة يكون عندها مستعدا لقبول تغيير كامل في توجهاته الفكرية والثقافية».. مايكل ليون، احد ابرز فلاسفة المحافظين الجدد في معهد أميركان انتربرايز، وهو اهم معهد لهؤلاء الناس وهو الخليفة او الحلقة العقدية والفكرية التي يفضلها الرئيس الأميركي جورج بوش ويستلهم منها افكاره ومفرداته.

هل يأتي زمن قريب يطالب فيه عقلاء العالم ومحبو السلام ـ من كل جنس ـ بـ «محاكمة» المحافظين الجدد أولئك بتهمة ثابتة وهي «التسبب المتعمد في كوارث سياسية وامنية وانسانية» حول العالم، وفي العالم الاسلامي بوجه عام او في المنطقة العربية بوجه خاص؟.. إذا كانت هذه المطالبة «نكتة» من حيث «خيالية» تطبيقها، في ظل الظروف والمعادلات الراهنة، فإننا ننتقل من دائرة النكت والتظرف الى «دائرة الجد» ـ الذي لا هزل فيه ـ لنقول ـ بوضوح متجرد من غش الأسرة البشرية ـ: إن الادارة الأميركية الحالية غدت «منبع» الأزمات ومصدر المشكلات: الاقليمية والعالمية منذ مطالع القرن الواحد والعشرين والى اليوم.. والى الغد «ما لم يحصل تبدل جوهري في السياسات الأميركية في التعامل مع العالم والعصر» ما الدليل على هذه الدعوى الكبيرة؟!

لنأخذ ازمتي النووي الايراني والارهاب كمثلين. ولنقرأ ـ بعمق وتفتح وعقلانية وصحوة ضمير ـ الدراسة الموضوعية التي اصدرها «المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية» في الاسبوع الماضي.. وهذا هو ملخص الدراسة.. قال المعهد الملكي: «إن السياسات الخاطئة للرئيس الأميركي جورج بوش قدمت لايران خدمة كبرى وعززت مصالحها القومية. فهذه السياسات هي التي ازاحت من امام ايران الد اعدائها وهما: نظام طالبان في افغانستان ونظام صدام حسين في العراق. فإيران تنظر الى العراق كحديقة خلفية. ولقد نجحت في التغلب على النفوذ الأميركي هناك، واصبحت اكبر قوة مؤثرة في العراق وهذا ما وفر لها القيام بالدور الرئيسي في مستقبل العراق.. ولم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لافغانستان. فايران تتمتع في هذا البلد بثقل ثقافي في روابط اجتماعية وثيقة. ان سلوك الولايات المتحدة في تلك المنطقة يشبه لعبة البوكر في حين يشبه السلوك الايراني لعبة الشطرنج، بمعنى ان الخطوات الايرانية مدروسة في حين ان الخطوات الأميركية تتسم بالمغامرة.. ولذا فان ايران باتت اكثر تأثيرا في شؤون العراق من الولايات المتحدة. وإذا استمر التوتر بين الطرفين واتخذت ادارة بوش قرارا بالقيام بعملية عسكرية وقائية، فهذا يعني تعريض قواتها الموجودة في العراق لخطر محقق مؤكد. فأي عملية عسكرية ضد طهران يعني المخاطرة المباشرة بالوجود الأميركي العسكري في العراق. فإيران لن تسعى للرد في الأرض الأميركية، بل ستختار العراق مسرحا لردها. وهذا وضع سيقوض تماما استقرار العراق، بل المنطقة بأسرها.. بالنسبة للإرهاب، ثبت فشل الادارة الأميركية في هذا الميدان، وهذا الفشل هيأ لايران فراغا سياسيا اقليميا تحركت بسرعة لملئه واستغلاله».

هل أصبحت الادارة الأميركية «موظفة» أو مجندة لخدمة ايران؟!.. اذا كان الجواب بـ «نعم» ، فإن نعم هذه تنطوي على معلومة أو مفهوم ان الولايات المتحدة ممثلة في ادارة المحافظين الجدد ليست سوى «دولة عميلة» لإيران!!.. أما اذا كان الجواب بـ «لا» . فإن دلالة «لا» هذه هي: ان المتخبط هو الذي لا يدرس النتائج قبل ان تقع.. فهل شنت الحرب، وأهدرت الأموال، وأزهقت الأرواح، وتبددت المصداقية، وشاهت الصورة في سبيل التخبط والنزف والارتجال والانفعال؟

ان هذا الاحتمال ـ على سوئه وغباوته ـ أخف سوءا وحمقا من احتمال «العمالة» لايران.. ويبدو ان احتمال التخبط هو الراجح.

ما الدليل على ذلك؟

الدليل من فم الفاعل، من فم البنتاجون نفسه!!

لقد أصدر البنتاجون «وزارة الدفاع الأميركية» دراسة قالت فيها: «ان الادارة الأميركية اخطأت تماما في شن الحرب على افغانستان، وكذلك على العراق، واخطأت الادارة ليس في قرار الحرب فقط، وانما في الاعداد لهاتين الحربين وفي ادارتهما. ان الحرب على افغانستان والعراق لم تحققا الاهداف المرجوة منهما، فإلى جانب الخسائر الفادحة في الأرواح من المدنيين، وفي صفوف القوات الأميركية، فإن البلدين اللذين شنت عليهما الحرب لم يشهدا عودة الأمن والاستقرار ولا تكرست فيهما ديمقراطية صحيحة واقعية.. ثم ان هذه الحروب قد زعزعت مكانة وسمعة الولايات المتحدة في العالم بأسره».

ومن البراهين الاضافية على سياسة التخبط والركض المستمر في الوحل في هذين المجالين «التعامل مع ايران.. ومواجهة الارهاب» :

1 ـ الدور الأميركي في ترجيح كفة المحافظين في ايران.

ثمة اسباب عديدة وراء «صعود» محمود أحمدي نجاد الى قمة السلطة التنفيذية بطريقة خاطفة وصاعقة.. ومن أقوى هذه الأسباب:

التبني الايراني الغريب المهتاج لما سمي بـ «الاصلاحيين الايرانيين» . فقد أظهر هذا التبني الأميركي هؤلاء الناس وكأنهم «عملاء» لأميركا أو «طابورها الخامس» ، أو «قواعد نفوذها في العمق الايراني» .. ومن ثمار هذا الاحتضان القاتل الذي لا تلمح فيه أي عبقرية في الحساب الصحيح الواقعي الدقيق:

أ ـ صعود أسهم من أطلق عليهم وصف «المحافظين الايرانيين» في مجلس الشورى.

ب ـ قفز رجل من عمق النظام الفكري والسياسي الى رئاسة الجمهورية بأغلبية تستعيد أجواء ثورة الخميني بادئ ذي بدء.

وفي الحالتين، صوت الشعب الايراني «ضد» الذين تغازلهم أميركا، وترتاح لهم وتجاهر بدعمهم.

والعبرة العاجلة ـ هاهنا ـ هي: ألا يتباهى، وألا «يتكل» أحد ممنحوا أنفسهم صفة الاصلاحيين هنا وهناك، الا يتكل أحد من هؤلاء ـ في أي بلد ـ على أميركا، أو يستنيم لنصرتها وتمجيدها له. فهذا أقرب الطرق وأقصرها إلى «الاحتراق السياسي» ، و «الدفن الوطني» .

2 ـ دنت ساعات ذكرى قارعة 11 سبتمبر 2001 وأول وأكبر سؤال يطرح مع مجيء هذه الذكرى هو: هل أديرت المعركة ضد الارهاب بطريقة عقلانية موضوعية تستبقي «التعاطف» مع الأميركيين في محنتهم، وتبقي على «الاجماع العالمي» الكاره للارهاب، المستعد للتعاون مع أميركا في هذا الميدان؟.. إن «النفي» هو الجواب عن السؤال الآنف.. وإنما تتكون معطيات النفي من «مواقف وافعال أميركية» ، لا من «مواقف» خصوم أميركا الارهابيين، أي أن المكاسب التي حصلت عليها الولايات المتحدة، تبددت وتبخرت على يد الذات الأميركية!!.. علق مغناد ديساي عضو مجلس اللوردات البريطاني على انحسار التعاطف مع أميركا في حربها على الارهاب فقال: «لقد تبعثرت موجة التعاطف الآن. فالولايات المتحدة قضت على الادارة الحسنة بسبب غرورها، وأصبح الكثير من الناس الذين لم يعتبروا أنفسهم ـ قط ـ معادين لأميركا يشعرون اليوم بتوتر تجاه الولايات المتحدة، ويرجع ذلك الى السياسات الأميركية الجديدة المشبعة بالانانية والفردية».. وقد أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجراها مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن: ان للاوروبيين موقفا نقديا حادا تجاه الادارة الأميركية الحالية، وتجاه ما يعتقدون انه نهج احادي يمارسه طرف واحد في مجال السياسة الخارجية. فنسبة %85 من الالمان، و%80 من الفرنسيين، و%73 من البريطانيين، و%68 من الايطاليين يعتقدون ان الولايات المتحدة تنطلق من مصالحها الخاصة في حرب الارهاب.. وفي السياق: ناقشت ماري كالدور الباحثة في الشؤون الدولية في لندن، عبر برنامج في هيئة الاذاعة البريطانية مع مراسل واشنطن بوست، ناقشت موضوعا حيويا محددا وهو «أميركا القوية.. هل هي قوة خير» ؟ ومما قالته في البرنامج: «ان دور الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة انفرادية هي خطر على العالم بأكمله»..

وفي ختام البرنامج وافقها على رأيها %70 من الحضور.

وللقارئ أن يضيف الى صور تخبط الادارة الأميركية صورا أخرى: صورة سياستها تجاه الفلسطينيين.. وصورة ادائها العسكري والاداري والسياسي في العراق.. وصورة موقفها من حرب إسرائيل على لبنان وهو موقف تعمد إطالة أمد الحرب.. وصورة: تضاعف النشاط الارهابي مئات المرات عبر السنوات الست لادارة المحافظين الجدد.. وصورة التلاعب بمجلس الأمن بواسطة الصهيوني المتطرف جون بولتون.

ليستقر في وعي النخب الحاكمة والمثقفة: ان هذه الادارة الأميركية تركض بالعالم ـ ونحن جزء منه ـ ركضا لاهبا متصلا نحو الهاوية والمخرج هو: ان يكون الشغل الشاغل لزعماء المنطقة والعالم هو: ان ينهال كل منهم بالشورى الناصحة الجريئة على هذه الادارة، ولو اضطر او استطاع ضرب الطاولة بقبضته أمام بوش!.. فالبشرية كلها تمتطي سفينة واحدة، وهذه السفينة ستغرق حتما اذا سمح راكبو السفينة لأحدهم بخرقها، لا سيما اذا كان الخرق كبيرا بحجم الخارق. فاذا استبعد هذا المخرج، فان المخرج الوحيد الباقي للنجاة هو: ان يجاهد كل زعيم في سبيل حماية بلاده من الحرائق التي تشعلها هذه الادارة في كل مكان.