خطاب سن البلوغ..!

TT

تسعة اشهر فقط فصلت بين تولي الرئيس السوري بشار الأسد الرئاسة في سوريا خلفا لوالده الراحل حافظ الأسد، وبين اعتلائه منبر أول قمة عربية دورية في العاصمة الأردنية عمان ليلقي خطابا مطولا تحدث فيه بإسهاب عن بديهيات العلاقات الدولية، وبدا كمن يحدث آخرين عن مفردات حياة عاشوها قبله!!.. في اليوم التالي، وصفت الصحافة الإسرائيلية خطاب الرئيس السوري الشاب بأنه «خطاب سن البلوغ»، وهو نفس الوصف الذي يمكن اطلاقه باستحقاق على خطاب الرئيس السوري بشار الأسد في اليوم التالي لسريان وقف اطلاق النار في لبنان.

وخطاب سن البلوغ في التقاليد اليهودية هو ذلك الذي يلقيه الطفل لدى احتفال اسرته ببلوغه سن الثانية عشرة وهو سن البلوغ طبقا للشريعة اليهودية، حيث يتعين على الطفل البالغ ان يقدم نفسه للمجتمع كرجل من خلال خطبة يلقيها امام ضيوف العائلة، معلنا دخوله الى دنيا البالغين. أما خطاب سن البلوغ الذي ألقاه الرئيس السوري قبل أيام امام المؤتمر الرابع لاتحاد الصحافيين فقد عكس قراءة مراهقة لنتائج الحرب الاسرائيلية على لبنان، بدا خلالها ان الرئيس السوري يحاول سرقة الانتصار اللبناني الذي ما كان من الممكن تحقيقه دون تفهم قوى 14 آذار الذين وصفهم بـ«أنصاف الرجال»، معتبرا انهم ليسوا سوى «صناعة إسرائيلية».

خطاب الرئيس السوري عكس ـ ربما بدقة غير مطلوبة في تصريحات الساسة في مثل هذه الاحوال ـ مزاجاً نفسياً، بأكثر مما عبر عن خطة عمل سياسية، فهو راض عن مقاومي حزب الله، ناقم على جماعة 14 آذار، وهو يتوعد فصائل سياسية لبنانية لولا وعيها وتمسكها بوحدة لبنان تحت القصف الاسرائيلي، لما تمكنت أي مقاومة مهما بلغت بسالتها من التصدي للعدوان ودحر المعتدين، ثم انه استدار على رموز عربية لولا وقفتها لما أمكن التصدي لهزيمة سياسية في مجلس الأمن خطط لها الامريكيون والاسرائيليون، ولولا دعمها ما استطاعت نقاط السنيورة السبع ان تصبح ورقة العمل الرئيسية بين أيدى كل الباحثين عن تسوية، بل ان خطاب الاسد لم يعف حتى اصدقاء دمشق في لبنان فالرئيس سليم الحص يتساءل تعليقا على خطاب الاسد: «لماذا التعرض للفرقاء» ويضيف الحص: «الاسد كان في غنًى عن هذا الموقف».

أما حزب الله الذي التقى زعيمه حسن نصر الله بالرئيس السوري في دمشق قبل القاء الخطاب فقد علق نائبه بمجلس النواب اللبناني حسين الحاج حسن على كلام الأسد، مؤكدا «ان حزب الله لا يتبنى كلام الاسد فيما يتعلق بجماعة 14 آذار»، رافضا اعتبار فريق 14 آذار «عميلا لاسرائيل ولا لأمريكا». واضاف: «نصرنا هو لقوى 14 آذار قبل أن يكون لحزب الله، وهم شركاء في النصر ونحن وراءهم»!!

هيمنة المزاج النفسي للرئيس الأسد على ما احتواه خطابه من أفكار ومفردات، على حساب مقتضيات السياسة وحساباتها، تعكس بوضوح أعراض «سن البلوغ» التي يعد هذا الخطاب الكارثة أحد أكبر تجلياتها، لكن المشهد برمته ربما كان بدوره أحد تجليات مأزق النخب الحاكمة في العالم العربي، إذ تقفز الى الحكم بمسوغات القرابة وحدها، بعد تأهيل «بروتوكولي» متسرع، لا يبالي بغياب مواهب القيادة ـ وهي فطرية في الغالب لا تحملها جينات الوراثة بالضرورة ـ ولا يعنى بصقل مهارات الحكم، وتقييد الصلاحيات شبه المطلقة للحاكم من خلال مؤسساتية حقيقية، وفصل حقيقي بين السلطات.

خطاب الأسد عنوان لمأزق، لا يكفي الاعتذار عنه للخروج منه، وانما تتطلب معالجة آثاره، مراجعة سورية في العمق لآليات صنع السياسة بعيدا عن مزاجية سن البلوغ، وأن يتصالح العرب جميعا مع مفهوم الدولة العصرية بمؤسساتها ودستورها وقضائها ومنظماتها المدنية، وتمتع مواطنيها بكافة حقوق المواطنة.